الذمية تطل برأسها..
بقلم: منير بشاي
"الذمية".. اصطلاح يعبِّر عن مجموعة من المفاهيم التي تحكم التعامل مع أهل الكتاب (المسيحيين واليهود)، الذين يعيشون مع المسلمين في الدولة الإسلامية. وهو يعتبر المسيحيين واليهود "أهل ذمة"، بمعنى أنهم في حماية المسلمين، ويصنِّفهم في وضع وسطي لا يرتقي إلى مرتبة المسلمين ولكنه لا يتدنى إلى وصمة الكفار.
والأساس في هذا قول القرآن "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" (التوبة 29).
الذمية أو ما يُطلق عليه أحيانًا "عهد الذمة" أو "عقد الذمة"، هي بمثابة معاهدة يلتزم فيها المسلمون بحماية اليهود والمسيحيين الذين يعيشون معهم في الدولة الإسلامية مقابل دفع نوع من الضرائب يطلق عليه "الجزية.
وللذمية أحكامها التي تتناول العديد من القضايا، ولكنني سأقتصر هنا على ما يتعلق بموضوع الحماية الحربية وتحديد من يقوم بها في الدولة الإسلامية. والقاعدة العامة أن الخدمة العسكرية أو الجندية هي واجب على المسلمين فقط، وعليهم تقع مسئولية الدفاع عن الدولة. أما الذمي (المسيحي أو اليهودي) فطبقًا للشرع لا يحق له الاشتراك في الخدمة العسكرية (الجيش) أو الدفاع عن الأمن (الشرطة)، إلا من خلال ما يدفعه من ضرائب مثل الجزية والخراج.
وقد اشترطت العهدة العمرية في المعاهدة التي أبرمها الخليفة "عمر بن الخطاب" مع أهل الشام، أن لا يركبوا السروج (الخيول)، ولا يتقلَّدوا السيوف، ولا يتَّخذوا شيئًا من السلاح. أي أنه لا يجوز لهم الدفاع حتى عن أنفسهم. ثم جاءت المذاهب الفقهية الأربعة فوضعت تفاصيل لهذه القواعد التي تتراوح بين التشدد والوسطية والتسامح؛ فالإمام "مالك" والإمام "بن حنبل" ذهبا إلى أن واجب الدفاع عن الإسلام بقوة السلاح يقتصر على المسلمين دون غيرهم. والإمام "الشافعي" يرى أن اشتراك أهل الذمة في الخدمة العسكرية جائز إذا كانوا ممن يكنون للإسلام ميلًا بالغًا أو إن كان بجيش المسلمين وهن فاحتاج إليهم. إلا أنه يرى عدم جواز استخدام الذميين في قتال العصاة المسلمين كيلا يظهروا (يتعالوا) على المسلمين. أما الإمام "ابن حنيفة" فلا يرى أي مانع في توظيفهم وإدماجهم في جيش المسلمين كاملًا، وإرسالهم في قتال الأعداء سواء كانوا مسلمين أو غيرهم.
ولا شك أن الحظر على اشتراك أهل الكتاب في الدفاع عن وطنهم فيه امتهان لكرامتهم وانتقاص من مواطنتهم، ونعتهم أنهم ليسوا أهلًا بالثقة التي يحظى بها المسلمون. ومن هنا جاءت الشكوى المستمرة من هذا الإجحاف خلال تاريخ الدولة الإسلامية، ثم حدث التغيير على هذا الوضع في أواخر عصر الخلافة العثمانية.
ومع ضعف الخلافة العثمانية في القرن التاسع عشر، وازدياد نفوذ الدول الأوربية المسيحية، حدث ضغط على الخليفة العثماني السلطان "عبد الحميد" لتحسين أحوال المسيحيين واليهود الذين يعيشون في الخلافة. وبناءًا عليه صدر الخط الهمايوني سنة 1856، وكان يعتبر خطوة تقدمية في ذلك الوقت، والذي ينظِّم الكثير من القضايا المتنازع عليها مثل بناء الكنائس، وأيضًا نص على تغيير هام في مسألة الدفاع، فلأول مرة ينص القانون بإلزام جميع رعايا الخلافة (بما فيهم المسيحيين واليهود) بالخدمة العسكرية. وبذلك انتهى رسميًا عهد الذمية.
ومع هذا فإن الكلام عن الذمية استمر يتردد على ألسنة بعض الإسلاميين. هذا في الوقت الذي كان المسيحيون في "مصر" ينضمون للجيش ويخوضون المعارك مع المسلمين وتختلط دمائهم بدماء المسلمين. وعلى سبيل المثال كان صاحب فكرة تحطيم خط بارليف مسيحي، وقائد الكتيبة التي كانت أول من اقتحمت "سيناء" في حرب العبور كان أيضًا مسيحيًا.
وكنا نظن أنه تاريخ قد انقضى، ولكن من الغريب أن يتردد الكلام عن أن المسيحيين أهل ذمة في حماية المسلمين بعد قيام ثورة 25 يناير 2011 التي كان المفروض أن تدفع المجتمع المصري إلى مزيد من التقدمية، وإذ بها تصبح مطية يركبها السلفيون ليعودوا بنا إلى الوراء.
من أخطر ما قيل في هذا، ما جاء على لسان الشيخ السلفس "محمد حسان" الذي طالب المسلمين بحماية المسيحيين على أساس أنه واجب على المسلمين حماية أهل الذمة من أي اعتداء خارجي "أنا أقول ليسوا (المسيحيون) في حاجة إلى الاستقواء بأمريكا ولا بأوروبا لأن حمايتهم واجبة علينا نحن المسلمين. لا نقول ذلك سياسيًا وإنما نقول ذلك تدينًا وطاعة منا لربنا ونبينا".
وهذا أيّده ما قاله خطيب الجمعة في ميدان "التحرير": "حماية أموال المسيحيين وكنائسهم مسئوليتنا نحن المسلمون". وأيضًا ما قاله "محمد بديع"- المرشد العام للإخوان المسلمين- موجهًا الكلام لأعضاء الجماعة "حماية إخوتكم المسيحيين فريضة وواجب وتكليف، فكونوا اللجان الشعبية من شباب الإخوان بكل شارع وحارة لحماية المنازل المسيحية والكنائس قبل المساجد ضد مثيري الفتنة، فهؤلاء يستغلون أخطاء وخلافات صغيرة قد تنشأ بين الأشقاء ويحولوها إلى حرب يستغلوها لإثارة الفتنة بين المسلمين والمسيحيين".
وأنا هنا لا أتكلَّم عن واجبات الجيرة أو مشاعر الأخوة الطبيعية التي تحتِّم على الجار أن يحمي جاره ويصون عرضه وممتلكاته، وقد رأيناه في وقت الانفلات الأمني عندما كان سكان العمارة من المسيحيين والمسلمين يتناوبون لحماية عمارتهم من البلطجية، والذي رأيناه أيضًا عندما كان المسلمون في يوم الجمعة يصلون في ميدان "التحرير" بينما كان المسيحيون من حولهم يحمونهم. ورأيناه أيضًا في يوم الأحد عندما قام المسلمون بحماية المسيحيين أثناء صلاتهم. ولكنني أتعرَّض للمبدأ الخطير الذي يقول أن المسيحي– بصفة عامة– في ذمة المسلم ليحميه. فأعتقد أننا تعدينا هذا في القرن الواحد والعشرين حين أصبح المسلم والمسيحي كلاهما في ذمة الدولة تحميهم بجيشها وبشرطتها التي تتكون من المواطنين جميعًا دون نظر إلى ديانتهم.
والذمية هي فكر مستمر وليست مجرد حدثًا تاريخيًا قد مضى زمانه. وهذا الفكر- للأسف- قد وصم به بعض المسيحيون. وفي هذا السياق أزعجني قول المهندس "نجيب ساويرس": "من يستقوي بالخارج خائن لوطنه والمسلمون الأجدر على حماية الأقباط". فمع احترامى لرأيه، ولكنني أعتقد أن هذا التصريح هو قبول لمبدأ الذمية وتفريط في أهم حقوق المواطنة واعتراف ضمني بالدونية. ومع التسليم أن الحماية العسكرية الأجنبية مرفوضة من غالبية الأقباط، ولكن البديل لهذا هو حماية الجيش المصري لكل المصريين وليس حماية أتباع دين معين لأتباع دين آخر.
إن الذمية في ذمة التاريخ، تمامًا كما حدث لمشروع الاستعمار الغربي للدول النامية، ففكرة أن يكون الإنسان في عهدة إنسان آخر كولي أمره أو كوصي عليه، في هذا القرن الواحد والعشرين، هي فكرة قد عفا عليها الزمن؛ لأنها نوع من استعباد الإنسان لأخيه الإنسان. فالمساواة في الحقوق والواجبات على أساس المواطنة هي لغة العصر. أي لغة أخرى غير هذه لا نفهمها، ولا نتكلمها، ولا نقبل أن يكلمنا بها أحد.
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :