الأقباط متحدون - ماما سهير.. ماما آنجيل
  • ٢١:٥٥
  • الخميس , ٢٢ مارس ٢٠١٨
English version

ماما سهير.. ماما آنجيل

مقالات مختارة | فاطمة ناعوت

٣٧: ٠٧ ص +02:00 EET

الخميس ٢٢ مارس ٢٠١٨

فاطمة ناعوت
فاطمة ناعوت

محظوظٌ مَن له أمٌّ عظيمة. ومَرضىّ عليه مَن له أُمّان عظيمتان. أنا محظوظةٌ، وأنا مَرضِىّ علىّ. محظوظةٌ بأمى «سهير» التى أتت بى إلى هذا العالم، فأحسنتْ تعليمى وتطبيبى وتهذيبى. علّمتنى أن الجِدّ والإتقان هما الخيارُ الوحيدُ فى الحياة. غرستْ فى إدراكى أن: ١٠/٩، والصفرَ: سواءٌ. فما عاد خيارٌ إلا الـ١٠/١٠. لم أرها إلا سيدةً حاسمةً، جادّةً، قليلةَ الكلام، غزيرة العمل. وحين كنتُ أغارُ من زميلاتى اللواتى تُدلّلهن أمهاتُهن، وأسألُها: «أين تدليلُك لى؟» كانت تجيبُ باقتضاب أن التدليل هو: التعليمُ الممتاز، الطعامُ الممتاز، والصحة الممتازة، وما دون ذلك إفسادٌ لا حاجة لنا به. رحل أبى مبكرًا عن عالمنا، فتحوّلت أمى إلى أمٍّ وأبٍّ. امرأةٌ فاتنة، وجدت نفسَها وحيدةً بلا زوج، وبين يديها طفلان بلا أب، فطرحت فتنتها وأنوثتَها جانبًا، وتحولت إلى جنرال عسكرى صارم، لا يقبلُ أنصاف الأشياء. نسيَتْ رغدَ نشأتها وتعليمها فى مدارس نوتردام، وخاضت معترك الحياة القاسية لترعى طفلين صارا مع الأيام: طبيبًا ناجحًا، ومهندسةً أديبة، هما ثمرةُ كفاحها الطويل المُضنى. مبكرًا جدًّا فقدت السندَ، فصارت هى السندَ لأطفالها ولكل مُعوزٍ بلا سند. لهذا انقصم ظهرى حين غادرت أمى هذا العالم قبل عشرة أعوام، وانكسر عودى. لأن عودى كان مُتكئًا على عودِها. وحين دخلتُ بيتَها لأول مرة بعد رحيلها، وجدتُ البياضَ يحيطُ بكل شىء كأنه لونُ الحداد. وأطلّتْ قِطتُها البيضاءُ برأسها من وسط البياض، تموءُ وتسألنى عنها. فصرتُ أخافُ اللونَ الأبيض:

«وماذا أعملُ بالثلجِ عشّشَ فى أركان البيت؟/ بقِطّتكِ البيضاء؟/ ماذا أفعلُ بصور العائلة على الحائط الأبيض؟/ بالأبوابِ البيض المغلقةِ أمام قلبى؟/ بستارةٍ بيضاءَ ساكنةٍ؟/ بالسيارة البيضاء العجوز/ بفوطةٍ بيضاءَ تحملُ رائحتَكِ/ بخصلةٍ من شَعرِكِ بيضاءَ عالقةٍ بالمشط/ بشالِ حريرٍ أبيضَ ضمَّ كتفيكِ المُجْهدين/ بقطرةٍ من ماءِ زمزمَ/ عالقةٍ فى كأسِ غُسْلِك/ ماذا أفعل بخوفى؟/ هل أبيعُ كلَّ ذاك البياض وأشترى أقراصًا للنوم؟/ هل أقايضُ بثمنها على أمٍّ تركتنى وطارتْ/ ويدى لم تزل/ معلّقةً فى طرفِ ثوبِها؟».

■ ■ ■

لكنّ السماءَ رحيمةٌ، كما تعلمون. وهبتنى أمًّا جديدة، تمنحنى الحبَّ والتدليل، فاشتدَّ عودى من جديد. أُعانقُها فى كلِّ مرةً، فلا أعانقُها عناقًا واحدًا بل اثنين. أُقبّلُها فى كلّ مرة، فلا أقبّلُها قبلةً بل قبلتين. عناقًا لأمى التى رحلت، وعناقًا لأمى الجديدة. كل ما فاتنى من قُبلاتٍ فاتنى أن أمنحها لأمى التى غادرت، أنهلُ شهدَها الحانى من أمى الجديدة. عادت لى الابتسامةُ وتأكدتُ أن اللهَ يُحبّنى، لأنه أخذ منى أمًّا، ومنحنى أمًّا. أمى الجديدة اسمُها آنجيل. وهى بالفعل الملاكُ الذى لا ملاكَ يشبهه. تلك «الملاكة» الجميلة ترقدُ اليوم على فراش مرض المايلوما. المرض الشرير الذى أخذ منّا العالم «أحمد زويل». ولو أخذ منّى آنجيلى فسوف أخاصمُه وأخاصمُ الحياة. حين رحلت ماما سهير عن الدنيا واسيتُ نفسى بأن كتبت: «أرحمُ ما فى موت الأمهات، أنهنّ لا يمُتن مرتين. الأمُّ تموت مرةً واحدة». وتصوّرتُ أننى تخلّصتُ من رعبى أن تموت أمى، فقد ماتت وانتهى الأمر. عزاءٌ خائب وفلسفةٌ فارغة كما ترون، لكن ما حيلتى؟! وأشفقتِ السماءُ على ضعفى ومنحتنى العزاءَ الحقيقى. وكان العزاءُ أمى الجديدة «آنجيل». فقدانُ الأم مرةً، قاس ومُرٌّ. ولكن مَن بوسعه أن يتحمّل فقدان أمّه مرتين؟! يا رب.. لا تضعنى فى هذه التجربة. فأنا أضعفُ من ورقة شجرة.
نقلا عن المصري اليوم

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع