لو كانت «شيرين» إماراتية!
مقالات مختارة | بقلم : فاطمة ناعوت
٥٦:
٠٩
م +02:00 EET
الأحد ٤ مارس ٢٠١٨
تعالوا، من فضلكم، نشحَذُ أجنحةَ خيالنا، ونطير.. ونحطُّ فوق أشجار الأقدار البديلة، ثم نُحلِّق فى فضاء الافتراضات. هيّا نفترض عدّة افتراضات خيالية. أولًا نفترض أن المطربة شيرين عبدالوهاب مواطنةٌ إماراتية، أو وافدةٌ تعيشُ على أرض الإمارات. ثم نفترض أن فى دولة الإمارات نهرًا جميلًا اسمه «النيل».
ونفترضُ أيضًا أن النهر العظيم الذى يقطع دولة الاتحاد الإماراتى من الجنوب إلى الشمال ويُغذّى شرقَها وغربَها، ويروى زرعها، ويسقى طيرَها، كان حزينًا، لأن بعض غير الشرفاء، يلقون فيه نفاياتهم وصرفهم الصحى، وأن بعض المصانع المجرمة تلقى مخلّفاتها السامّة فى جوف مائه الطاهر. ثم نفترض أن شيرين كانت تُغنّى أمام جمهور حاشد من كل الجنسيات، ولسبب ما، فى لحظةٍ ما ذات طيشٍ، أطلقتْ مزحةً سخيفة، وأهانت «نهر النيل الإماراتى» قائلةً إنه ملوّثٌ، ويصيبُ بالأمراض مَن يشرب منه. بالطبع غضب الإماراتيون من قولها، وتقدّم محامٍ «نحريرٌ» ببلاغ للنائب العام الإماراتى ضد المطربة الإماراتية شيرين لإهانتها رمزًا إماراتيًّا عزيزًا على الشعب، وهو نهر النيل. وقُدّمت المتهمة للمحاكمة. انتهت الفرضيات. وقبل تخيُّل بقية الحكاية، سأحكى لكم واقعةً حقيقية حتى ننسج بخيوطِها وعلى نولِها، بقية حكايتنا الخيالية.
قبل عام قام مجموعة من العابثين بإلقاء «قطة» حيّة أمام قطيع من الكلاب الجائعة فى مدينة دبى، ثم وقفوا يستمتعون بصراخها والأنياب الحادّة تنهشُ أشلاءها. لم ينتظر حاكمُ دبى، الشيخ محمد بن راشد، حكم المحكمة، وحكم عليهم حكمًا مثقفًا «من خارج الصندوق». أمر بأن يقوم أولئك الغلاظ بتنظيف حديقة الحيوان فى دبى ثلاثة شهور، بواقع أربع ساعاتٍ يوميًّا. تأملوا معى عبقرية العقاب. ماذا يحدثُ حين يدفعُ إنسانٌ ٣٦٠ ساعة من عمره (٤ ساعات x ٣ شهور) فى تنظيف أماكن عيش الحيوانات التى احتقرها، وعذّبها، وأهلك روحَها دون مبرر؟ تلك الساعاتُ سوف تُقارب بين المجرم وبين عالم الحيوانات، حين يرقبها فى لحظات صحوها ونومها ولعبها وسكونها وصخبها وأمومتها ووداعتها وشراستها، فيتأمل عظمةَ الله وعبقرية خلقه، ما يزيد من حبّه للحيوان واحترامه، لذلك العالم السحرى الآسر: عالم الحيوان. ثم تأملوا عبقرية الرقم (٣٦٠). الرقم الدائرى المُلغز الذى يفهمه أربابُ الرياضيات. وكأنما أراد الحاكمُ المثقف أن يقول للمخطئ إن الكونَ دائرةٌ، وإن للحيوان ما للإنسان من حقوق، وإن تعذيب حيوان أعجم، لا يمرُّ مرور الكرام، وعلى المذنب تدور «الدائرة». هنا تتمُّ عملية إعادة إعمار روح المذنب، بتحويله إلى مواطنٍ إيجابىّ فعّال يمنحُ الخيرَ والفرحَ لمن حوله، بعدما كان مواطنًا سلبيًا غير فاضل سارق الفرح والأمان من قلوب الناس.
نعودُ إلى قصّتنا الخيالية الآن. أغلبُ الظنَّ أن حاكم الإمارات سوف يقضى بأن تطلبَ المطربةُ شيرين من جمهورها من الشباب والشابّات بأن يساعدوها فى تنظيف نهر النيل الإماراتى لمدة ثلاثة شهور، فيقدمون نموذجًا محترمًا أمام العالم فى تحويل المشكلة إلى حلّ. فكما صنع الحاكمُ علاقةً «حبّ» بين معذّبى الحيوان، والحيوان فى القصة الواقعية، سوف يخلق علاقة «حبٍّ» بين مزدرى النيل، وبين النيل، فى الحكاية الخيالية. هنا ينجحُ الحاكمُ فى تحويل «مخطئ» خارج عن مظلّة التحضّر، إلى شخصٍ فاضلٍ كريمٍ له أيادٍ بيضاء على الناس والمجتمع.
ما جدوى حبس مخطئ وخسارة جهده، فى مقابل الجدوى من عمله فى تنظيف ما يجب تنظيفه فى الوطن؟ إنها فلسفة تحويل الرذيلة إلى فضيلة، وتحويل الإيذاء إلى خدمة مجتمعية رفيعة.
لا أُبرئ المطربةَ شيرين مما قالت عن النيل. فأنا أكثر من جُرِح من قولها، لأن للنيل قداسةً فى قلبى يعرفُها قرائى. ولا أُعلق على أحكام القضاء المصرى المحترم الذى حكم بحبسها شهورًا ستّة فى المحكمة الابتدائية. ولكن إن أردتم سَجنَها، فلا تنسوا أن تسجنوا معها ملايين المصريين الذين يُهينون النيل ويستخدمونه كحوض نفايات ممتد من جنوب مصر إلى شمالها. إن أردتم أن تسجنوا «القائل»، فلا تنسوا أن تسجنوا معه «الفاعل». نحتاج إلى بناء سجون بطول مصر وعرضها لو شرّعتم قانونا يعاقب (المُلوِّث) عوضا عن القوانين التى تسجن (المتكلم).
نقلا عن المصرى اليوم