القلب لا علاقة له بالحب... هكذا صُنِعت أسطورة العضو الذي لا يشعر
منوعات | رصيف 22
الجمعة ٢ مارس ٢٠١٨
"كلنا نعرف طبعاً شكل قلب الإنسان العادي، كله شكل واحد، كله موديل واحد، فلا يوجد قلب موديل 55، وقلب موديل 74، ولا يوجد قلب طراز 1100، وقلب طراز 2300، ولا يوجد قلب له شكل "الكوساية"، وآخر له شكل "الكرنبة"، كله شكل واحد، إلا العاشق الغنائي، الذي ينفرد بموديلات عديدة من القلوب لا مثيل لها على الإطلاق في كتب الطب البشري، ولا البيطري!".
هكذا سخر الكاتب الشهير أحمد رجب من استخدام الشعراء الغنائيين للقلب كآلة للمشاعر، في كتابه "الأغاني للأرجباني". ثم أوضح مغزى سخريته، معتبراً أن القلب عند المطربين يختلف عن قلب الإنسان الطبيعي، قائلاً: "أشد ما يلفت النظر، أن العاشق الغنائي قد فرض تكوينه التشريحي والفسيولوجي على إنسان الكرة الأرضية، وجعل إنسان الكرة الأرضية يعتقد -خطأً- أن مركز الإحساسات والعواطف هو القلب، لمجرد أن القلب هو مركز الإحساسات والعواطف عند العاشق الغنائي، الذي قدم من كوكب مجهول".
وأثبت علم الفسيولوجي أن القلب عند إنسان الكرة الأرضية، ما هو إلا مضخة (طلمبة أو طرمبة) تضخ الدم في أنحاء الجسم، فلا علاقة له بالعواطف، وليست له أية وظيفة غرامية لأن مركز العواطف والمشاعر عند إنسان الكرة الأرضية في الغدة فوق الكلى، المسماة "سوبرا رينال"، أي "غدة الكظر". وعليه، "لا تغنِّ "أنا قلبي إليك ميال" بل "أنا كظري إليك ميال"، و"يا قلبي يا مجروح" تقولها: "يا كظري يا مجروح""، يقول رجب.
ما قاله رجب ليس مجرد سخرية، فالعلوم الطبية تؤكد أن القلب ما هو إلا مضخة للدم، تنظم دورته في الجسم، ولا علاقة لها بالشعور، ولكن هذا القلب قد يضطرب نتيجة انفعال عن طريق أعضاء أخرى غيره.
ولكن، هل ربط القلب بالمشاعر أمر اخترعه الشعراء والمطربون أم أن المسألة أبعد من ذلك؟ وإذا كان القلب لا يحب ويكره، لا يخاف ويُقدم، لا يمل ويستمتع... فأي أعضاء جسدنا تشعر؟ هل هي الغدة الكظرية فقط، كما قال رجب أم أن المسألة أكبر من ذلك؟ ولماذا يخفق القلب ويضطرب نتيجة المشاعر إذا كان لا يشعر؟
متى وكيف ربط الإنسان القلب بالمشاعر؟
يرجع بعضهم تعزيز مكانة القلب كرمز للإبداع إلى العصر الكروماني في أوروبا، أي قبل العصر الجليدي الأخير، قبل 10 آلاف عام، ولكن أول حضارة عززت من مكانة القلب كرمز للعاطفة والحكمة هي الحضارة الفرعونية.
أقوال جاهزة
سر الربط بين القلب والمشاعر، هو التغيير أو الاضطراب الذي يحدث لدقات القلب نتيجة لما يشعر به الإنسان
ملامسة يد الشاب يد حبيبته يؤدي إلى تأثير المجال الكهرومغناطيسي لقلبه على المجال الكهرومغناطيسي لدماغها
اعتقد المصريون القدماء أن القلب هو بيت الحكمة وموطن الخير والشر، حتى أنهم اعتقدوا أن الإنسان حين يحاسب بعد الموت، يتم ذلك عن طريق قلبه. وجاء في كتاب الموتى لبول بارجيه أن الإله أنوبيس يخرج قلب الميت من جسده ويزِنه، ويقارنه بـ"ريشة ماعت" التي ترمز إلى الحقيقة والعدل، ليسجل الإله توت نتيجة الميزان، وبناءً على الوزن يكون حكم الإله أوزوريس، فكلما قلّ وزن القلب عن وزن الريشة كان صاحبه إنساناً طيباً خيراً يستحق الحياة في الجنة بعد الموت، والعكس إذا زاد وزنه، فيلتهمه وحش مهمته معاقبة المذنبين، اسمه "عمعموت".
المسألة لم تقف عند الفراعنة، فالصينيون أصحاب ثاني أقدم حضارة في العالم بعد المصريين، وضعوا القلب في منزلة كبيرة، بحسب كتاب "العاطفة والعقل بين القلب والدماغ"، للدكتور سالم مجيد الشماع.
يوضح الشماع أن للصينيين نظرية تمتد لآلاف السنين، محورها أن القلب هو المسؤول الأول عن التفكير والوعي والإدراك، ولا يزال الأطباء الصينيون يعتقدون أن القلب هو مركز العقل والفكر، ويتكلمون عن نوعين من العقل:
الأول: "يي:yi"، والثاني: "شن shen". الأول يختص بالسيطرة على الحكمة والمقدرة على التحليل، أما الثاني فيختص بالقلب ويرتبط بالعواطف والتفكير والإدراك، بالإضافة إلى مهمته كمضخة للدم.
الديانات عززت الفكرة
في العهد القديم، نجد أن القلب هو موطن المشاعر والتفكير، فنقرأ: الْغَمُّ فِي قَلْبِ الرَّجُلِ يُحْنِيهِ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ تُفَرِّحُهُ. وكذلك: "الغش في قلب الذين يفكرون في الشر، أما المشيرون بالسلام فلهم فرح".
وفي العهد الجديد، نرى كيف يلهم القلب الفم بالكلام: "مِنْ فَضْلَةِ الْقَلْب يَتَكَلَّمُ الْفَمُ". وكذلك فهو مكان حفظ الكلام: "يَا ابْنِي، أَصْغِ إِلَى كَلاَمِي. أَمِلْ أُذُنَكَ إِلَى أَقْوَالِي. لاَ تَبْرَحْ عَنْ عَيْنَيْكَ. اِحْفَظْهَا فِي وَسَطِ قَلْبِكَ". وهو محل نظر الرب إلى الإنسان: "لأَنَّهُ لَيْسَ كَمَا يَنْظُرُ الإِنْسَانُ. لأَنَّ الإِنْسَانَ يَنْظُرُ إِلَى الْعَيْنَيْنِ، وَأَمَّا الرَّبُّ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى الْقَلْبِ."
وفي القرآن يأتي القلب بمعان مختلفة، منها أنه مركز للحكمة والفهم والمسؤولية: "أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا، فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ". وكذلك: "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ". وأيضاً: "وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً".
إلا أن اللغة العربية قد توضح لنا أن استخدام القلب على هذا النحو، هو من قبيل المجاز، فضمن معاني القلب أنه المركز، والوسط، واللُبّ لكلّ شيء؛ فالحديث عن قلب الإنسان، هو حديث عن مركز إنسانيته، عن لب مشاعره، وماهية تفكيره، لا عن هذا العضو الذي يضخ الدم، ولكن الإنسان القديم لم يكن يستطيع تفسير النصوص المقدسة بهذا الشكل؛ لأنه ورث تقديس القلب، وربما كان سر الربط بين القلب والمشاعر، هو التغيير أو الاضطراب الذي يحدث لدقات القلب نتيجة لما يشعر به الإنسان، وهو ما سيتضح تفسيره الصحيح، خلال السطور التالية.
لكن من المسؤول عن المشاعر والعواطف إذا لم يكن القلب؟
البطلان الرئيسان لتفاعل الإنسان مع المؤثرات الحياتية، وإنتاج العواطف والمشاعر هما الجهاز العصبي (الدماغ والنخاع الشوكي) الذي ينتج النواقل العصبية، والغدد الصماء. بحسب ما ذكر سالم مجيد الشماع في كتابه.
النواقل العصبية (أو ما يطلق عليها العصبونات)، هي مواد كيميائية يفرزها الدماغ فتغير مشاعرنا وأمزجتنا، أما الغدد الصماء، التي تترأسها الغدة النخامية (موجودة أسفل الدماغ) فهي تفرز هرمونات، وتتحكم في ما تفرزه الغدة الكظرية (الموجودة فوق الكليتين) من هرمونات أيضاً... هذه المواد الكيميائية والهرمونات هي التي تتحكم في العواطف، والمشاعر عموماً، فبعد إفرازها تسبح في الدم، وتؤثر على الجسم كله، فتحدث فيه أعراضاً متعددة، تختلف بحسب الهرمون أو الناقل العصبي، الناتج عن التأثر بعامل ما (ذكريات، رؤية، سماع، لمس،...إلخ).
من هذه الأعراض، اضطراب دقات عضلة القلب، تقلصات المعدة، ارتعاش الأطراف، قشعريرة الجلد، جفاف الشفتين، عرق الجلد، انتفاخ الخدين وتوردهما... وأعراض أخرى كثيرة، بحسب الشماع.
ولنأخذ بعض الأمثلة للموصلات العصبية والهرمونات المسؤولة عن العواطف، ذكرها الدكتور محمد الحسانين، استشاري أمراض الباطنة، كالدوبامين المسؤول عن الشعور بالبهجة وله دور في إدمان الشخص عنصراً أو شيئاً يحبه، وفينيل إثيلامين المسبب للسعادة، والموجود بقوة في الشيكولاته، والإندورفين الذي يؤدي إلى إطالة اللقاء العاطفي. وهناك أيضاً هرمون فازوبرسين المسؤول عن الغيرة، وهرمون الجريلين الذي يساعد علي الاسترخاء...
ولكن، لماذا نشعر باضطراب في دقات القلب حين تعلو عاطفة الحب داخلنا، أو المشاعر عموماً؟
السبب الرئيس هو الاتصال بين القلب وباقي أعضاء الجسم، ولا سيما العقل والجهاز العصبي، ويذكر الشماع، أن هناك 4 وسائل اتصال بين القلب والعقل، وهي الاتصالات العصبية، والاتصالات الكيماحيوية "الهرمونات"، والاتصالات بالحقول الكهرومغناطيسية، والاتصالات الفيزيوحيوية. وكلها تجعل القلب يتأثر بما نستشعره، ويبدو كأنه شاشة لعرض ما أنتجه الجهاز العصبي والغدد الصماء.
في ما يلي مثال طريف يوضح صورة من هذا الاتصال، بين القلب والعقل داخل جسد واحد، وبين صاحب هذا الجسد وشخص آخر، وليكونا شابا وفتاة:
للقلب مجال كهرومغناطيسي تحدث عليه تغيرات وفقاً للمنبهات التي شرحنا تأثيرها سابقاً، واتضح أن هذه التغيرات في المجال الكهرومغناطيسي للقلب يمكن قياسها من بعد 5 أقدام من جسم الإنسان الذي يحمل هذا القلب، بحسب الشماع، الذي يشير إلى أن دراسات بجامعة أريزونا الأمريكية أثبتت أن المجال الكهرومغناطيسي لقلب شخص، يمكن أن يؤثر على الفاعلية المغناطيسية لدماغ شخص آخر قريب مكانياً منه.
وهو ما يُلاحظ، عند التقاء فتاة بشاب تحبه ويحبها، ذلك يؤدي زيادة خفقان قلبه (الناتج عن هرموناته وموصلاته العصبية) وملامسة يد الشاب يد حبيبته، إلى تأثير المجال الكهرومغناطيسي لقلبه على المجال الكهرومغناطيسي لدماغها، بحكم قربه منها جسدياً، فينتج عن ذلك أيضاً، نشاط لموصلاتها العصبية وهرموناتها، فيضطرب المجال الكهرومغناطيسي لقلبها هي كذلك، ويزيد خفقانه.
وداخلياً، يتأثر القلب بهرمون نورإبينفرين، الذي تفرزه الغدة الكظرية نتيجة تأثرها بأي توتر أو مؤثر خارجي. هذا الهرمون يساعد الجسم على إفراز هرمون إبينفرين، الذي يزيد معدل دقات القلب.