الخطاب المسيحى
البروتوبرسفيتيروس أثناسيوس حنين
السبت ٢٤ فبراير ٢٠١٨
بين المارتولوجيا والأجيولوجيا
خواطر لاهوتية – صيامية فى مسألة الخطية ومستقبل الرسالة المسيحية
الأب أثناسيوس حنين
غلبوا على أعصابهم فتوهموا ....أوهام غالب على أعصابه !!!
ينشغل الرأى العام المسيحى فى هذه الأيام المقدسة بالحياة الروحية فى أعمق أعماقها ’ وكما يتـأرجح بين مفهوم الخطيئة وثقلها ’ وطموحات القداسة ووعودها . الناس ’ كل الناس ’ لا ينكرون وجود القداسة ’ ولكنهم يجهلون مكانها ’ فقد عقدت الخطيئة أمام أعينهم سحابة سوداء ’ أظلمت لها أبصارهم ’ وأسكنتهم جحيم نفوسهم ’ حتى يجدوا فى السماء ’ سماء هذه الأيام الصيامية المقدسة ’ نجما لامعا ’ يرشدهم الى نعيم القداسة وسبل الحرية . يلفت نظر تلك الشريحة من المؤمنين التى تأخذ الحياة المسيحية على محمل الجد ’ هذا التشديد الهائل على الخطيئة والخاطئ . وكأن المسيحية هى ديانة الذنب والشعور بالذنب ’ حتى أن شريحة من المسحيين و من الوعاظ قد ذهب مذهب أن خطيئة الانسان هى أهانة كبيرة وغير محدودة لأنها قد وجهت الى الله الغير المحدود ’ وبالتلى فهى تحتاج الى كفارة غير محدودة . وصلت البشارة بالخطيئة وعواقبها وأسقاطاتها الى الله نفسه . لا يقتصر مفهوم الخطيئة على المسيحيين والمتدينيين ’ بل تعداها الى الشأن العام الثقافى والسياسى ’ فقد أعتاد الكثيرون من رجال الدين ورجال الصحافة وأهل الثقافاة ’ على الاتجار بعقول الناس فى أسواق الجهل والتجهيل والتذنيب والاحساس الدايم بالتقصير ’ ولقد نجح كل منهما فى أن يصنع له ثغرة فى كل راس من رؤؤس البشر ’ ثغرة ينحدر منها الى لعقول فيفسدها بأشعارها دائما بالذنب السايسى والتقصير الثقافى ’ والقلوب فيقتلها بوابل من التجريمات واللعنات والويلات وعذاب النار ونار الجحيم وباس المصير . صارت الخطيئة والذنوب هى النشيد القومى للكثر من الناس ة اليوم ’ ألعل المبالغة فى التهويل من شأن الخطيئة ’ يحمل فى طياته ’ استعداد باطنيا للتنازل أمام أهوائها والاستسلام لتيارها الجارف .
لا ينكر أحد أن شريحة النصوص الكنسية تعج بالخطيئة وذكر الخطيئة ’ ولكن فى مقابلها توجد نصوص تبشر بالقداسة وتحث عليها. القضية هى قضية لاهوتية بالدرجة الاولى ’ اذا أن الكثير من المشاكل والتعقيدات الت ىأعترضت طريق المسيحيين ’ خلال تارخهم ’ انام جائت من الانفصام بين الفظ ومعناه وبين الكلمة ومندلولها وبين النص والـأويل ة وزبين الاخلاق واللاهوت . تم حصر وحشر القيم اللاهوتية اتأسيسية فى نطاق أخلاقى ضيق ونسبى ويخضع للتنأؤيلات وللقيل والقال .
من أكثر التعبيرات التى نالها نصيب اأسد من هذا الركام الاخلاقى الذى تم دفنها تحته ’ مفهوم الخطيئة ..
Η Αμαρτία
لجأت الى المعاجم والمراجع لأوثق لهمومى و أبحث عن منفس ’ حتى لا أختنق ومعى القرأء الأحباء . أدهشنى التعريف الذى قدمه قاموس الكتاب المقدس للخطيئة ’ والذى ’ بسبب من عموميته وغموضه ’ لن يختلف كثيرا ’ على المستوى الدينى والاخلاقى ’ اذا ما وضعنا ’ على غلافه ’ عنوانا لكتابا اسلاميا او مرجعا يهوديا . الخطيئة ’ يقول قاموس الكتاب المقدس ’ هى (التعدى على شريعة الله وأحكامه ’ وكل من يفعل الخطية يفعل التعدى أيضا. وخطية الترك هى أهمال ما تفرضه شريعة الله . أما خطية الفعل فهى ارتكاب ما نهت عنه تلك الشريعة (تك 4 :7 ’ومتى 25:45 ’ وذيو5 :17 ’ وغلا 3:10 -12 ’ورومية 3 :23 ’ و1يو :3 ’ 4 ) ص 344 .
هرعت الى فهر الكتاب المقدس ’ فوجدته أكثر سخاء ’ اذ يذكر الخطية ومرادفاتها فى عدة صفحات (173 -176 ).
مشككلتنا ليست مع واضع النصوص بل مع فهمنا نحن لها ’ هذه النصوص هى اختبارات لاهوتية وانسانية وروحية وكنسية وواقعية ’ عاشها أناس الله القديسون ’ ومن شدة ذهولهم أمام الرؤيا ’ لم يكن قصدهم أن يكتبوا ما عاشوا ة ان لم يقل لهم الروح (....واكتبها على لوح قلبك (امثال 3 :3 )...أكتبها على قوائم بيتك وعلى أبوابك ) تثنية 6 :9 . فقدنا قوتها وعافيتها حينما حشرناها فى نطاق اخلاقى نسبى بلا مرجعية لاهوتية مطلقة . ولم يكن قصد من كتبوا هذه النصوص المقدسة التغنى بخطاياهم ’ بل هم أناس عايشوا النعمة ’ وذاقوا البركة ’ ولمسوا الاحسان ’ وتغيروا عن شكلهم ’ حينما جددوا أذهانهم ’ ومن ثم أدركوا بشاعة (...عمر ضايع يحسبوه ازاى على !) ’ وأعتصرهم الحزن ’ على ما ضاع من عمرهم ’ وما أنجزوه من تقصير كبير فى حق النعمة والحق . نحن ’ أمام هذه النص2وص ’ شهودا (ما شفناش حاجة !) من الذى من البدء ’ سمعوه (كلمة)’ ورأوه بعيون الجسد (انسانا )’ وشاهدوه بعيون القلب (الها) ولمسته أيديهم ( مسيحا افخارستيا)’ من سبق وكتبوها ’ من جهة من وضعوها ! ولهذا بنقطع هدوم بعضنا البعض ’ حينما نتعنتر للتفسير ونتتنطع للتأويل ونردح ’ لبعضنا البعض ’ فى من له السبق فى الاختبارات الدينية ’ كنفسانيون ’لا روح لنا !
الأحساس بالخطية ’ عندهم ’ جاء من عمق حرية ’لم يتغنوا بها ’ بل شمتوا فيها ’ بالنعمة ’ لم يكن نشيدهم القومى "أنا خاطئ" ’ وحتى ولو ’ قالوها ’ كانوا يقصدون " أنا خاطئ أتقدس ’ وترابى يتأله " . لم تكن الأمارتيا ’ عند , الأكابر الروحيين ’ حالة من " المحن "(بضم الميم) النفسانى ’ والكأبة الشكلية ’ والنفاق الفريسى ’ الذى أدى بالأديب الحيكم الى الكفر بالخطيئة والبؤس وحياة النفاق وغياب الفضيلة فقال :
(لقد سمج وجه الرذيلة فى عينى وثقل حديثها فى مسمعى حتى أصبحت أتمنى أن أعيش بلا قلب فالا أشعر بخير الحياة وشرها ’ سرورها وحزنها ).مصطفى لطفى المنفلوطى : النطرات ’دار المنال –بيروت 1993 ص 13 .
!!! يكن شعارهم ’ أبدا ’ "بكأبة الوجه ينصلح القلب " ’ هذا عندهم عصر شريعة ’ قد ولى ’ وأكتمل فى وجه ذاك الذى حول قلوبهم بالنعمة ’ فأكتأب الوجه "كأبة فرحانة " الخارموليبى ! الحزن الفرحان والفرح الحزين ! لنتصور انسان سقط فى أعماق النهر وكان من الموت غرقا قاب قوسين أو أدنى ’ ومن ثم دبرت له عناية السماء ’ من ينقذه ويخرجه على الشاطئ ! هذا الانسان وهو فى أعماق الماء ’ لم يكن يشعر بثقل الماء ! ولكن وبعد أن خرج من أعماق الماء ’ فسوف ينوء بحمل _(جردل ) ميه ! وهو فرحان بالنجاة ’ يشعر ببعض الزعل على أن قواه لا تسعفه لحمل دلو مليان ماء !شئ من هذه عاش من كتبوا النصوص والمقالات والشروحات ’ التى تتناول موضوع (الخطيئة)! لم يكن لهم مصالح ’ فريسية ’ خاصة ’ فى التغنى بالاخطية والتهليل للسقوط ’ والترنم بأهم تعساء (وخطاة) ’ ما كانوش (دافنيونوه سوى !)مع حد أو سبت أو مصلحة أو تربيطات ’ هم دفنوا خطاياهم مع ذاك الذى "دفن " من أجلهم ! ولم يعودوا يذكروها ’ بل يذكرون كم صنع بهم الرب ورحمهم ..
القضية كلها هى أنه لا يستطيع الحديث عن الخطية بجد الا من تقدس بحق وحقيقى . المسيحية ليست ظرف خاطئ أو حال مايل دايم أو اسم علم أجوف ’ بل هى فعل تدقيس ومضارع مستمر .
ما هو معنى الخطيئة ؟
يقول الفلاسفة اليونانيون بأن بداية التربية الصحيحة ’ هو فحص معانى الكلمات وفحوى الأسماء ! ولهذا هرعت الى ثلاثة قواميس لا غنى عنها لفحص أصول الكلمات الانثروبولوجية ة للوصل الى مكنوناتها الثيؤلوجية . أولا قاموس ليدل سكوت ’ وهو المرجع الأم فى تاريغ اللغة اليونانية الكلاسيكية ’ ومن ثم قاموس لامبى للتعرف على مسيرة الكلمات عند الأباء
Lampe , Patristic Lexicon ,page
’ ومث ثم قاموس الاصول اليونانية للعهد الجديد
Bauer ,A Greek English Lexicon of the New Testament ,page 41 – 43.
وفى باب (هامارتانوا )
Άμαρτάνω
To miss the mark , to fail of one,s purpose , to go wrong
(Oxford 1845,page 67)
الخطيئة لغويا هى أن لا يصيب القناص الهدف عند التصويب و لاهوتيا هى فقدان الهدف من الوجود وضياع البوصلة ’ ومن ثم تأتى النتائج الاخلاقية والمتاهات النفسية وتفتح أبوابها دكاكين وفضائيات الفتاوى الدينية ’ اسلامية ومسيحية . دائما أتصور مجموعة من بلدياتى فى غرفة مظلمة ’ وهنا صرخ أحدهم وكبيرهم !ّ يلا يا ولد بالشوم ها نطرد الضلمة ديئ ! النتيجة هى أنهم سوف يقضون ليلتهم فى مستشفى العظام ! هنا الامارتولوجيا -الخطيئة الجماعية ! الأجيولوجيا - القداسة تبدأ اذا ما قام أحدهم بالتعب وبالبحث عن كبس النور ! هنا القداسة شخصية والنتيجة عمومية ’ هنا السيئة تعم ’ فى حالة الغباء الجماعى والامارتيولوجيا ’ والحسنة برضة تعم فى حالة القداسة الفردية والاجيولوجيا .
البشيرون والأباء الكبار وخدام الكلمة ’ لم يقوموا بتغريب الكلمات اليونانية القديمة ’ والتى شكلت أساس الفكر اللاهوتى ’عن أصولها يقدموها قربانا لخنازير الثقافة وزناة الفكر ’ ولم يأخذوا الكلمات الى كورة بعيدة لكى يقدموها قربانا أمام خنازير الثقافة وزناة الفكر ! أليست هذه هى الخطية الحقيقية ’ فقدان الهدف وبالتالى تزييف الكلمات وقتل المعانى ! والجلوس فى أرض الغربة الثقافية واليتم اللاهوتى والبؤس النفسى والتضور جوعا ! من اليوم الذى أمسك فيه المتدينون الكلمات فى أيديهم وضغطوا عليها حرصا و خوفا ’ ماتت الكلمات فى أيديهم ! صارت الكلمات نعوشا للمعانى وليست فصحا . وخرجت علينا أجيال تتغنى بالكلمات الميتة ووتندب عليها وتبشر بها ! ونتسأل بسذاجة ! لماذا لا يتوب الناس ؟ لما لا يتقدسون !
فقدان الهدف هو بداية منحدر الخطيئة وتحديد الهدف هو بداية مصعد القداسة . صرخ أحدهم قديما (لوقا 18 :35 -43 )وملاء الدنيا صياحا ’ انتهره الكبار والفاهمون ليسكت ! يا يسوع يا ابن داود أرحمنى ! أرحمنى ! ارحمن ! توقف يسوع ’ وبدلا من أن يعطيه الرحمة ’ سأله السيد : ماذ ذا تريد ! عاوز ايه بالضبط ! ارحمنى دى كلمة عايمة قوى ! ترضى الغرور الدينى وتشيع الصيت الاجتماعى ووتمجد الصوت العالى وتكرس نفسية الشحاتين على موائد الرحمن وتزيد أرصدة ألمتاجرين بالأم وأوجاع وأعواز أخوة الرب ! ’ ولا تحقق الملء اللاهوتى ولا تجلب الشفاء ولا تعطى البصيرة ! تندب على المرض ولا تنال الشفاء ! تتغنى بالعمى وتشحت عليه ! أصبحت العاهة وظيفة ! أرزاق ! أضطر الردل أن يقرر وأن ينتقل من التعميم الامارتولوجى الى التحديد الاجيولوجى ! أن أبصر ! قالها ! روح وانت البصير ! رد السيد ! الخطيئة والعمى الحيثى تنتهى سيطرتها بمجرد أن يحدد الانسان هدفه ! وقتها يتوقف دور الامارتولوجيا (بطل الشحاتة الروحية والتسول الدينى )! ليبدأ طريق الأجيولوجيا حينما قرر أن يحدد الهدف من الصراخ ! وفى الحال أبصر وتبع يسوع وهو يمجد الله ’ ولما كان طريق القداسة هو طريق جماعى ’ فقد حدث أن جميع الشعب اذ رأوا سبحوا الله !
خطاب الهامارتولوجيا هو علامة من علامات الزمان الردئ ’ لقد صديق الكثيرون منا بأنهم خطاة ! فقط ! وكأن المسيح مات بلا سبب ! نتغنى بغربتنا مع الابن الضال ’ وقليلا ما نتكلم عن حض الأب الدافئ !
نضارب فى البورصة ونغسل الاموال ونأكل مال الفقير ’ ونتأمل فى زكا مأمور الضرائب ’ وموقفه الحاسم !
نطلب الماء الحى ’ ونريد أن نتحتفظ بزوج غير شرعى !
قطعنا السمكة ويدلها مع مريم المصرية ’ ولا نريد أن نسمع صوت الروح على أبواب أورشليم القدس يدعونا للقداسة والتغيير والقرار !أعتدنا على المتاجرة بخطايانا ’ لهذا لا يخرج من بيننا أنبياء ولا مصلون لأننا كلنا (دافنينوه سوى ! ) ’ ونشترك شكليا فى زياح دفنة يسوع !
قال أحد الفاهمون يوما !
من يعيش فى النعمة والقداسة فعلا ’ بعد أن تاب عن الخطيئة والنجاسة فعلا ’ يمكنه من أن يفهم أذا كان الخطيب أو الواعظ هو :
خاطئ يتقدس فعلا !
أو
قديس يتجمل شكلا !
لقد صرنا ’ والكثيرون من أبناء جيلى ’ نرتعب من كلمة (قديسون وقداسة ) ’ ولا نخجل من كلمة (خطاة وخطية ) ’ ووصل الأمر الى أن الكثيرون ’ منا ’ حينما كانوا يسمعون ’ لأول مرة ’ الصرخة الكبرى فى الليتورجيا :
(القدسات للقديسين)
يلتفتون حولهم بحثا عن القديسين الغائبين ! لم يقل لهم أحد ’ وهم لا يصدقون أنهم هم ’ ليتورجيا ولاهوتيا وروحيا ’ هم المعنيون بالأمر! هم القديسون والمدعون الى القداسة ! لقد أصابتنا الدهشة الكبرى ’ حينما علمنا من اللاهوتى بولس الحقيقة الكبرى ’ والتى يقرر فيها أن تاريخ المؤمنين والأنبياء ورجال ونساء الله القديسون والقديسات ’ مستمر فينا ’ بل أن الله قد قرر لنا شيئا أفضل لكى لا يكملوا بدوننا ’ تصوروا احنا اللى وقعنا من قعر القفة ! (عب 11 :40).
القداسة – الأجيولوجيا هى التحقيق اللاهوتى والكنسى والانسانى والكيانى المسيحى المستقيم ’ لشوق دفين فى داخل كل انسان ’عبر عنه الشهيد الصوفى الحلاج والذى قال يوما :
أنا من أهوى ومن أهوى أنا ..... نحن روحان حللنا بدنا
فاذا أبصرتنى أبصرته .....واذا ابصرته ابصرتنى .
(فيليب حتى ’ تاريخ العرب –بيروت 1986 ص 508 ).