يشير مصطلح «المؤلفة قلوبهم» إلى مجموعة من الأشخاص الذين يتم شراء ولائهم بالمال والمصالح حتى لا يشكلوا جيوب نقمة أو مصدر إزعاج لمن يحكم، سواء كانوا خصوماً داخليين أم خصوماً خارجيين. وقد عرف العرب هذا المصطلح أول ما عرفوه فى القرآن الكريم، حين سمعوا قول الله تعالى: «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ». وقد ظهرت الحالة التى يعبر عنها المصلطح فى الحياة الإسلامية خلال واحد من أهم الأحداث التى أعقبت فتح مكة، والمتمثل فى غزوة «حنين». وهى الغزوة التى كادت تعصف بالأمة لولا رحمة الله، وانتهى أمرها بانتصار المسلمين، واستولوا يومها على مجموعة كبيرة من الغنائم، اختص النبى رؤوس القبائل العربية الذين أسلموا باللسان وانطوت سلوكياتهم على العداء بقسم لا بأس به منها. وأطلق على هؤلاء وصف «المؤلفة قلوبهم». على رأس هؤلاء كان أبوسفيان بن حرب، الذى أسلم وصفوان بن أمية بن خلف، وعيينة بن حصن، وغيرهم.
أمام هذا التصرّف غضب بعض المسلمين الذين دفعوا ثمناً باهظاً مقابل النصر فى حنين، وكان أشدهم غضباً الأنصار. هدّأ النبى من روع الغاضبين وشرح لهم مغزى الخطوة التى اتخذها. ويخطئ من يظن أن النبى -معاذ الله- أراد أن يشترى الولاء الدينى لرؤوس القبائل بالمال، لكنه كان يعلم أن فى قلوبهم ضعفاً، وكان أغلبهم حديث عهد بالإيمان، فكان النبى يديرهم فى ضوء وعيه بتركيبتهم الإيمانية الهشّة. وهناك من القلوب ما يروضها المال أكثر مما يُهذّبها الإيمان. والدليل على ذلك ما كان يردّده واحد من كبار المؤلفة قلوبهم وهو «صفوان بن أمية»: «لقد أعطانى رسول الله، وهو أبغض الناس إلىّ، فما برح يعطينى حتى إنه لأحب الناس إلىّ». أمر علاج النفوس المريضة أو مهتزة الإيمان كان أمراً خاصاً بالنبى، صلى الله عليه وسلم، حين كان موضوع «المؤلفة قلوبهم» أداة سياسية لعلاج مشكلة إيمانية، لكن الأمر اختلف كل الاختلاف بعد وفاته، صلى الله عليه وسلم.
كان عمر بن الخطاب أول من التقط الفكرة واستوعب الأمر، فقرر وقف العمل بـ«سهم المؤلفة قلوبهم»، فـ«عمر» رأى فى نفسه حاكماً يسوس أمة، وليس نبياً يعالج النفوس مهتزة الإيمان، فهم «عمر» أن المسألة كانت مرتبطة بسياق معين وشخص محدّد، وأن الواجب بعد أن قويت شوكة الدولة أن يسقط هذا السهم ولا يقدم رشى لأحد، وكان يُردّد قوله تعالى: «وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ». وتعليق «عمر» لسهم المؤلفة قلوبهم، رغم نص القرآن عليه، يمنحنا درساً فى الطبيعة التاريخية للقواعد التشريعية، حتى لو كانت تشريعات دينية. فاختلاف الظرف وسقوط الذريعة يقتضى تقييم القواعد التشريعية وتكييفها تبعاً لمقتضى الحال. آمن «عمر» أن الدولة الإسلامية استوت على سوقها فى عهده، وبذا فلا حاجة لديه لرشوة أحد حتى يحمى حكمه. الضعفاء فقط هم من يسعون إلى تقديم الرشاوى إلى من يظنون أن بمقدورهم هز أوضاعهم وزعزعة استقرارهم، من باب «تأليف القلوب» وتوليفها أيضاً!.
نقلا عن الوطن