ميشيل حنا الحاج
عدد الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية، باستثناء حالات الاندماج بين دولتين أو أكثر في وحدة أو اتحاد من نوع ما…قد لا يتبدل نتيجة التطورات المتوقعة في هذه المنطقة خلال الربع القادم من القرن الحالي. ولكن حجم هذه الدول ومساحاتها، قد تنكمش اذا نجحت الولايات المتحدة في تنفيذ مشروعها الساعي لتشكيل شرق اوسط جديد بثوب جديد، يعتمد في جوهره على تفعيل تحرك الأقليات في المنطقة، سعيا نحو الاستقلال، مما سيؤدي عاجلا أو آجلا الى انكماش مساحات عدد من الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية.
وتحرك الأقليات سعيا وراء الاستقلال والانشطار عن الدول التي كانت تشكل جزءا من كيانها، لم يعد يقتصر على تحرك الأكراد في شمال العراق، وتحركهم في شمال سوريا، اضافة الى تحركهم في تركيا، اذ امتد ليشمل بداية تحرك الأمازيق، والنوبيين، والطوارق وغيرهم من الأقليات المقيمة على أراضي عدد من دول المنطقة.
وازاء تنامي مطالب الأمازيق، وافق المغرب منذ فترة طويلة، على اعتماد اللغة الأمازيقية كاللغة الرسمية الثانية في المغرب. كما احتفلت الجزائر هذا العام ولأول مرة، برأس السنة الأمازيغية التي تختلف عن رأس السنة الهجرية أو الميلادية. وفي برنامج عرضته قناة بي بي سي بعنوان دنيانا، استضاف البرنامج أربع سيدات أمازيغيات، احداهن من السودان واسمها أحلام مهدي، التي تحدثت عن الاضطرابات في دارفور حيث العديد من القبائل الأمازيغية. كما شاركت في البرنامج المذكور مليكة شيكر القادمة من المغرب التي ذكرت بوجود تعايش (حتى الآن) بين عرب المغرب وأمازيغه، اضافة الى سيدة أمازيغية من ليبيا، ورابعة من مصر وهي السيدة أماني وشاحي التي تبين بأنها ترأس جمعية للدفاع عن حقوق الأمازيغيات في مصر، الأمر الذي فاجأ المشاهد لاكتشافه بأن بعض الأمازيغيين متواجدون حتى في مصر.
ولا يختلف الأمر بالنسبة للنوبيين الذين يخوضون معارك ضد القوات السودانية في شمال البلاد، علما بأن النوبيين متواجدون أيضا في الجانب المصري من المنطقة النوبية. أما الطوارق الذين انتفضوا في مرحلة ما في أقصى شمال مالي، فقد خاضت القوات الفرنسية قبل خمسة أعوام، معارك ضارية ضدهم من أجل احتواء انتفاضتهم.
فتحرك الأقليات هذا الذي يبدو حتى الأن ضئيلا في الشمال الأفريقي، مرشح للازدياد والانتشار تدريجيا أسوة بما حدث مع الأكراد في شمال العراق، ومن ثم في شمال سوريا، وبعده في جنوب شرق تركيا، مع توقع لانطلاقة كردية قريبة في غرب ايران، حيث توجد منطقة كردية واسعة عاصمتها مهاباد، وتمتد في مساحتها حتى الحدود العراقية والتركية أيضا.
وتحرك الأقليات هذا الذي تغذيه الولايات المتحدة تنفيذا لمخططها الاستراتيجي لايجاد شرق أوسط جديد بثوب جديد، يهدف لتجزئة دول المنطقة، سواء الآسيوية منها أو الافريقية، سعيا وراء اضعاف تلك الدول… حماية منها لاسرائيل، ولايجاد تكتلات موازية من الدول الناشئة تتحالف مع الولايات المتحدة ومع ربيبتها اسرائيل.
وينطلق هذا التطور المشجع أميركيا، من مطالبة الأقليات عاجلا أو آجلا بحقهم في تقرير مصيرهم، وبالتالي في الحصول على الحكم الذاتي ابتداء، ولكنه حكم ذاتي يمهد للوصول الى مرحلة الاستقلال عاجلا أو آجلا مما سيؤدي ابتداء، لانكماش في مساحات بعض الدول الأعضاء في الجامعة العربية، اضافة الى انكماش في مساحات دول غير عربية في هذه المنطقة، ومنها تركيا وايران اللتان تضمان الكثير من الأكراد، وتشاد التي تضم عددا وافرا من الأمازيغ، ومالي التي يتواجد فيها الطوارق والأزواد مثلا. وقد وقعت فعلا في مالي حركة تمرد في عام 2012 ، كما سبق وذكرت، أدت لسيطرة قبائل الطوارق بالتعاون مع مجموعات تابعة لحركة ازواد وبعض الجماعات الاسلامية… على ثلاث مدن في اقصى شمال مالي، ومنها مدينة تمبكتو، مما ادى للتدخل الفرنسي في القتال من أجل استعادة المدن الثلاث من الأزاود والطوارق الذين أرادوا اعلان استقلالهم في تلك المنطقة من مالي.
والغريب في الأمر أن دول المنطقة العربية الآسيوية وخصوصا دول الخليج، وكذلك دول شمال أفريقيا العربية وغير العربية، لم تفعل شيئا بعد للرد على المشروع الشرق أوسطي الجديد الذي ترعاه الولايات المتحدة، سرا أحيانا وعلنا أحيانا أخرى كما في العراق وسوريا… لتبدأ دول المنطقتين بالتخطيط لانشاء الاتحاد الشرق أوسطي على غرار الاتحاد الأوروبي، الذي سيكون بوسعه استيعاب الدول القائمة حاليا وتلك التي تنشأ لاحقا، مما يحبط المشروع الأميركي لانشاء تكتل من الدول التي ستنشق وتنشطر عن الدول القائمة حاليا، لتشكل تكتلا متحالفا مع الولايات المتحدة ومع ربيبتها اسرائيل.
فمشروع الاتحاد الشرق أوسطي بات مشروعا ضروريا، ملحا، وقادرا وحده على مواجهة المخطط الأميركي. ولا يجوز أن يشكل عائقا له، الخلافات الطائفية بين بعض دوله، كالصراع بين السنة والشيعة الذي يؤجج الخلافات بين ايران وبعض دول الخليج، أو اختلاف القوميات والاثنيات، أو حتى الحروب التي نشبت بين بعض تلك الدول، كموقعة كربلاء التي عمقت الخلافات بين السنة والشيعة، أو معركة القادسية التي أوجدت الحساسية بين العرب والفرس، أي الايرانيين.
فاوروبا التي تضم 28 دولة (قبل انسحاب بريطانيا) خاضت العديد من الحروب بين بعضها البعض ومنها حرب الوردتين، والحرب الفرنسية البريطانية عندما دمر الانجليز اسطول نابليون في معركة واترلو، والحرب العالمية الثانية، وغيرها من الحروب الكثيرة جدا عبر قرون مضت. كما أنها تضم العديد من الاثنيات والقوميات. فالاثتنية أو القومية السائدة في اليونان غير تلك السائدة في فرنسا وايطاليا، وعلى غرار ذلك يقاس الكثير من دول الاتحاد الأوروبي. أما بانسبة للطوائف، فهي متعددة أيضا وكثيرا ما تناحرت فيما بينها. فبينما تسود الكاثوليكية في فرنسا وايطاليا واسبانيا ودول أوروبية اخرى، تسود الأورثوذكسية في اليونان وفي معظم الدول المنشقة عن يوغوسلافيا سابقا، كما تسود البروتسطانتية في انجلترا (التي تجري معاملة انسحابها من الاتحاد) وفي دول أخرى. بل هناك دول مسلمة داخل الاتحاد الأوروبي، مما يعني بأنه لا يوجد مجرد تفاوت طائفي بين دول الاتحاد، بل تفاوت ديني أيضا بين دوله. وها هي تركيا المسلمة، تسعى جاهدة للانضمام للاتحاد الأوربي ذو الغالبية المسيحية.
اذن لا ينبغي أن يتواجد هناك عائق أو عوائق تحول انضواء دول المنطقة تحت علم الاتحاد الشرق أوسطي، هذا بطبيعة الحال اذا كان حكام تلك الدول يسعون وراء مصالح بلادهم وشعبهم. ففي الاتحاد قوة، ورخاء اقتصاديا وفرصا أوفر للعمل لليد العاملة. وفيه قوة عسكرية تحمي دول المنطقة من الطامعين بها. ولعل أكثر ما يحققه الاتحاد الشرق أوسطي، هو تجنب الوقوع فريسة بين أنياب الولايات المتحدة ومخططها لشرق اوسط جديد، وذلك اضافة الى ابقاء الدول ذات الاثنيات الأخرى والساعية للانفصال عن دولتهم الأم….ابقاءها تحت عباءة الاتحاد الشرق أوسطي، خصوصا اذا تم التفاهم معهم على منحهم الاستقلال الذي يسعون اليه، بطريقة ودية وأخوية.
فهل يعقل العقلاء وغير العقلاء، وخصوصا في بعض دول الخليج، فيشرعون بالاقدام على هذه الخطوة التي قد تبدو للوهلة الأولى خطوة مجنونة وربما مستحيلة، في وقت هي فيه خطوة تعبر عن العقل والتعقل والسعي نحو مصالح شعوب المنطقة.