الأقباط متحدون - الصوبات الزراعية والمدن البلاستيك
  • ١٣:٤٧
  • الاربعاء , ١٤ فبراير ٢٠١٨
English version

الصوبات الزراعية والمدن البلاستيك

د. نادر نور الدين

مساحة رأي

٥٤: ٠٧ ص +02:00 EET

الاربعاء ١٤ فبراير ٢٠١٨

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

نادر نور الدين محمد
عائد للتو من رحلة علمية طويلة إلى إسبانيا وجامعاتها وحقولها وهى إحدى دول البحر المتوسط التى ضربها تغير المناخ والاحترار العالمى فتراجعت بها الأمطار وارتفعت الحرارة والتبخير وقلّت تدفقات الأنهار خاصة فى جنوبها. الحل كان فى المدن البلاستيك التى تظهر فى صور جوجل باللون الأبيض للبلاستيك، والذى يعكس أن الجميع فى بعض قرى جنوب إسبانيا أصبح يعيش تحت الصوبات البلاستيك. مثلت الصوبات البلاستيك الحل الأمثل لاستمرار الإنتاج الزراعى خاصة الخضروات للحفاظ على نفس مستوى الإنتاج السابق من الحقول المفتوحة ولكن باستخدام 10% فقط من المياه التى كان يتم استهلاكها من قبل، وفى نفس الوقت مضاعفة الإنتاج الزراعى ما بين ستة إلى عشرة أضعاف عن مثيلاتها فى إنتاج الحقول المفتوحة، حيث كانت الصوبات النموذجية قبل التطوير تشغل مساحة 1 /8 أى ثُمن الفدان ولكنها تعطى محصول فدان كامل بسبب استخدام التقاوى عالية الإنتاجية وتوفير الظروف النموذجية لنمو النباتات، وبالتالى تحققت المعادلة المستحيلة بمضاعفة الإنتاج عدة مرات من مياه أقل. هذا النموذج يعكس أن الصوبات الزراعية هى الأمل الوحيد لدول الشح المائى مثل مصر التى تعانى فجوة مائية ضخمة تبلغ 42 مليار م3 سنويا بالإضافة إلى وجوب ترشيد استخدامات المياه خلال فترة الملء الأول لسد النهضة وبالتالى كان مشروع العشرة آلاف صوبة مثالا جيدا للتعايش مع شحنا المائى والاحترار العالمى، بالإضافة إلى الاستعانة بالخبراء الإسبان الذين عاشوا التجربة ونجحوا فى تخطى أزمتى الاحترار والندرة المائية، وفى نفس الوقت الحصول على محصول أكبر من مياه أقل ومن مساحة تربة أقل فيبدو الأمر وكأننا ضاعفنا مساحة إنتاج الخضروات لثمانية أضعاف ووفرنا كثيرا فى استهلاك المياه الغالية.

ولكى ينجح مشروع الصوبات الزراعية ويحقق النتائج المرجوة منه للمزارعين والشباب العاملين به وأيضا يوفر السعر المُرضى للمستهلك، فلابد لوزارة الزراعة من القيام بتقليص مساحات زراعات الخضروات فى الحقول المفتوحة تدريجيا، لأن إنتاج هذه الحقول يحدث تشبعا تاما فى الأسواق بمنتجاتها وبالتالى فإن أى زيادة فى طرح كميات من الخضروات من مشروع الصوبات يخلق أسواقا فوق مشبعة فتنهار الأسعار ويخسر الفلاح والشباب من منتجى الصوبات الزراعية ذوى القدرات المالية المحدودة. فإنتاج مائة ألف صوبة زراعية يعنى حتمية تحويل مائة ألف فدان من زراعات الحقول المفتوحة للخضروات إلى زراعة الحاصلات الإستراتيجية التى نستوردها وهى القمح والفول والعدس والحمص وبنجر السكر شتاء، ومعها الذرة الصفراء للأعلاف والبذور الزيتية لإنتاج زيوت الطعام والتى نستوردها بالكامل من الخارج صيفا، وبهذا نكون قد حققنا منفعة مزدوجة بزيادة نسبة الاكتفاء الذاتى من السلع الإستراتيجية والحفاظ على أسعار الخضروات من الانهيار وتحقيق خسارة للجميع بما فيه أيضا الاقتصاد المصرى.

الأمر قد يتطلب أيضا ومن الآن السعى لفتح أسواق تصديرية لهذا الإنتاج الحديث، لأن التسويق دوما يسبق الزراعة ويكون أهم أسباب نجاحها مع معرفة نمط الاستهلاك فى الأسواق المجاورة والتى تزيد شتاء فى صقيع وجليد أوروبا وتنتعش فى مواسم العمل والدراسة والصيف فى الدول الخليجية، وبالتالى يكون التنوع فى الزراعة مابين الفاصوليا الخضراء والخيار والفلفل والطماطم والكنتالوب والبطيخ والخس وغيرها العديد من الخضروات التى تؤكل طازجة. هذا الأمر يتطلب المتابعة المستمرة لتركيزات متبقيات الأسمدة والمبيدات فى منتجات الصوبات الزراعية، لأن استخدام التقاوى عالية الإنتاجية يعنى شراهتها الكبيرة للغذاء وتطلبها لإمدادات كبيرة من الأسمدة الكيميائية للملاحقة على شراهة نباتات الصوبات بالإضافة إلى أن مقاومة الإصابات المرضية والحشرية فى الصوبات الزراعية يكون بالرش الوقائى وليس الرش العلاجى، فظروف النمو النموذجية داخل الصوب الزراعية توفر سبل النمو المثلى ليس للخضروات فقط بل أيضا لجميع الميكروبات الممرضة والحشرات التى تهاجم النباتات والتى إذا دخلت الصوبة قضت عليها قبل نهاية اليوم. هذا الرش الوقائى لعدة مرات يتطلب حسن اختيار المبيدات من الأنواع المصرح بها عالميا والتى لا تتراكم متبقياتها فى أنسجة وثمار المحصول وأن تكون سريعة التبخير وبلا متبقيات أو بمتبقيات قليلة فى حدود المسموح به فى الأسواق الأوروبية والعربية، وأن يكون الإقلاع عن رش المبيدات فى الأوقات المحددة قبل الحصاد وقبل طرح المحصول فى الأسواق المحلية والتصديرية.

مشروع الصوبات ينبغى أن يسير جنبا إلى جنب مع دخول مصر عصر الإنتاج العضوى والأغذية الأورجانيك والتى تفتح لها الأسواق الأوروبية والأمريكية أبوابها وبأى كميات طالما التزمت بالمواصفات العالمية للأغذية الأورجانيك. فعلى عرش الدول المصدرة للأغذية العضوية إلى أوروبا تتربع إثيوبيا وأوغندا وتنزانيا وتونس بينما تأتى مصر فى المؤخرة، رغم قربنا من الأسواق الأوروبية لموقعنا على سواحل المتوسط بما سيوفر الكثير لدول أوروبا فى تكاليف النقل الجوى والبحرى عن مثيلاتها المصدرة من دول منابع النيل ووسط أفريقيا، فالمنافسة هنا مشروعة وتحكمها قواعد السعر والمواصفات والالتزام بقواعد سلامة الغذاء، ومعنى كلمة أورجانيك دون تحايل وبكامل الشفافية. هذا الأمر تضمنه الأراضى الجديدة فى مشروعات الاستصلاح، حيث الأراضى بكر لم تسبق زراعتها أو تلوثها أو توطن الأمراض بتربتها كما أن آبار مياه الرى عميقة بعيدة عن التلوث وخالية منه، وبالتالى فإن مواصفات الأورجانيك مثالية طالما التزمنا بنوعية الأسمدة العضوية الطبيعية والمخلقة والمعقمة والمواد الخام للأسمدة المركبة المناسبة للإنتاج الأورجانيك مع المقاومة الحيوية للزراعات دون استخدام مبيدات كيميائية. هذا الإنتاج ربما يكون فى بداياته أقل فى المحصول بنسبة 25% عن الزراعات التقليدية ولكنها تعوض ذلك بارتفاع أسعارها ما بين الضعف إلى خمسة أضعاف أسعار المنتجات غير العضوية، مع مراعاة أنها سريعة التلف لعدم استخدام المبيدات والمطهرات فى التخزين والتسويق، ولكنها تعوض التكاليف المرتفعة لزراعة الصحراء.

مشروعات الصوبات الزراعية وإعادة هيكلة السياسات الزراعية للخضروات والدخول بقوة فى زراعات الأورجانيك وفتح أسواق التصدير بالإضافة إلى التصنيع الزراعى تسمح جميعها بالمساهمة الفعالة للزراعة فى الناتج القومى المحلى والتى لا تتجاوز حاليا 13% فقط رغم استهلاكها 85% من مواردنا المائية بحجم 57 مليار متر مكعب مقابل أن قطاع الصناعة يستهلك خمسة مليارات متر مكعب من المياه ويساهم بنحو 36% على الأقل من الناتج المحلى.

تألمت للغاية أثناء جولتى فى السوق الحرة لمطار مدريد، حيث لفت نظرى قميص رجالى ومكتوب عليه بوضوح «مصنع من قطن مصرى خالص» ولكن للأسف أسفلها عبارة صنع فى تركيا؟! وهذا ليس من حق تركيا أن تستغل شهرة القطن المصرى لتصدره إلى الخارج، لأن كل دولة تصدر ما هو إنتاجها فقط، وبالتالى فمصر أولى بعودتها إلى شهرتها العالمية بمنتجات ومنسوجات تتماشى مع الذوق والموضة الأوروبية بقطن مصرى خالص وفسكوز للقمصان والبلوزات والمفروشات واحتياجات الفنادق، فجميع الملابس القطنية فى إسبانيا والتى عليها إقبال وجدتها من إنتاج دول جنوب شرق آسيا فى غياب غير مبرر للمنتج المصرى، وأعتقد أن الفرصة متاحة تماما للعودة إلى الأسواق الأوروبية بالملابس والمنسوجات الراقية المصنعة من الأقطان طويلة التيلة، جنبا إلى جنب مع ملابس الكاجوال والتيشيرت والجينز والمصنعة من الأقطان القصيرة التيلة على أن يكون علم الإدارة والتسويق سابقا للزراعة.

*كلية الزراعة جامعة القاهرة

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع