كتابة التاريخ وأكاذيب المنتصرين
مقالات مختارة | نوال السعداوي
الاثنين ٢٩ يناير ٢٠١٨
كنت فى الثمانين من عمرى خلال ثورة ٢٥ يناير، التى أسقطت «مبارك» منذ سبعة أعوام، وكنت تلميذة بالجامعة، خلال مذبحة الشرطة فى ٢٥ يناير، منذ ستة وستين عاما، التى أسقطت الحكم الملكى الفاسد بعد ستة أشهر فقط.
فى الثامنة عشرة من عمرى، كنت متدفقة بالحياة والصحة والأمل، يتوقع الجميع لى مستقبلا باهرا، ولأحمد حلمى، زميلى بكلية الطب، الذى راح ضحية العمل الفدائى ضد الاحتلال البريطانى، ضمن آلاف الشباب الذين فقدوا أرواحهم أو ضاع مستقبلهم بأمل تحرير الوطن، كان أحمد حلمى، أكبر منى بعامين، بلغ العشرين من عمره، لكنه، مثل الكثيرين من الشباب، كان أسيرا لفكرة تحرير الوطن من الاستعمار الأجنبى، لم يدرك أن المعركة تبدأ أولا بتحرير الوطن من الحكم الداخلى الفاسد، كان حالما بالحرية، يهتف مع الشعب «الاستقلال التام أو الموت الزؤام»، هكذا ترك أحمد حلمى الكلية، وزميلنا أحمد المنيسى، وغيرهما من الطلبة النابغين بكلية الطب، سافروا فى كتائب الفدائيين لمحاربة الإنجليز فى القنال، بعد أن تم تدريبهم فى قشلاقات العباسية، على حرب العصابات، تحت إشراف حكومة الملك فاروق ورئيس وزرائه النحاس باشا، وفؤاد سراج الدين باشا وزير الداخلية. تشبع أحمد حلمى وزملاؤه الفدائيون بالمقالات النارية والخطب الملتهبة لزعماء الأحزاب المصرية، والطلبة التابعين لهم فى الجامعات، الذين تدربوا على الكلام المفوه والخطب الرنانة، والهروب عند أول إشارة بالخطر، لم يصبهم خدش فى مظاهرة، لم يحاربوا الإنجليز ولا الملك ولا الحكومة بالداخل أو الخارج، بل تعاونوا مع السلطات فى الخفاء وفى العلن، تحت شعارات متغيرة من عهد إلى عهد، منها البصيرة والحكمة، أو الوسطية والاتزان، أو الديمقراطية والتعددية واحترام الاختلاف، ورثوا الأموال والمناصب عن آبائهم وأجدادهم، تغنوا بالاشتراكية فى الستينيات، والخصخصة وحرية السوق فى السبعينيات، والعودة للتراث والخصوصية الثقافية فى الثمانينيات، والهوية الوطنية والشخصية الأصلية فى التسعينيات وبداية القرن الواحد والعشرين، أشاعوا أن أفضل النساء هن المحجبات، وأفضل أنواع التعليم هى الكتاتيب وتحفيظ القرآن، يرسلون أولادهم وبناتهم إلى جامعات أمريكا وأوروبا، لينهلوا العلوم والفنون، ثم يعودون إلى الوطن بأعلى الشهادات، يحصلون على المناصب والألقاب، بما فيها أبطال الثورة والأيقونات، دون أن يفقدوا قطرة دم، وكانت دماء الفقراء والشباب المجهولين تراق فى ميدان التحرير والشوارع، أو تفقأ بالقناصة عيونهم وقلوبهم، ثم يختفون داخل السجون، وتدفن أسماؤهم فى التاريخ.
وافق أبى على خطوبتنا، أنا وأحمد حلمى، ثم قال له: أنصحك بإنهاء دراستك للطب أولا، قبل أن تحارب الإنجليز، ثم إن محاربة الاستعمار الأجنبى تأتى بعد التخلص من الحكم الداخلى الفاسد، كان أبى فى ريعان شبابه حينئذ، لكن كلامه بدا لنا باردا عجوزا، نحن المراهقين المشتعلين حماسة بحب الله والوطن، لا نفصل بين الله والوطن، وقد تشبعنا بالجهاز الحكومى الإعلامى فى الأبواق والصحف والإذاعات، بدا منطق أبى كفرا بالله أو خيانة للوطن، أو على الأقل منطق الأنانية البيولوجية والسلطة الأبوية، التى يهمهما مصلحة الأبناء أكثر من مصلحة الوطن، تزوجت أحمد حلمى، رغم نصيحة أبى، وأنجبت ابنتى الكاتبة د. منى حلمى، وكان يمكن أن أسافر إلى جبهة القتال فى القنال، وتشرب أرض الإسماعيلية دمى، أو أختفى فى كهف بجبل اللاهون فى الفيوم، مع الفدائيين الهاربين من مطاردة الحكومة المصرية والإنجليز، لكن البنات لم يكن لهن مكان فى حرب العصابات، ولأول مرة فى حياتى، أدرك أن للهوية المؤنثة بعض الميزات.
قتل الآلاف من الفدائيين فى الحرب ضد الإنجليز، منهم زميلى أحمد المنيسى، أما أحمد حلمى فلم يقتل أثناء الحرب ذاتها، لكنه مات بالقهر الحكومى المصرى، والحزن على زملائه الفدائيين الذين قتلوا بسلاح الإنجليز والحكومة المصرية معا، وتم تشويه صورتهم بالآلة الإعلامية البريطانية والمصرية معا، تحولوا من فدائيين أبطال الوطن، إلى مشاغبين، متطرفين، خونة، قتلة، واندثرت أسماؤهم مع أجسامهم فى بطن الأرض وأصبح فؤاد سراج الدين باشا، وزير الداخلية، يحمل فى التاريخ المصرى والبريطانى، لقب بطل العمل الفدائى ومعركة الإسماعيلية ٢٥ يناير، والحقيقة أن كتائب الفدائيين نجحت فى تكبيد الاحتلال البريطانى خسائر فادحة فى منطقة القنال، بعد أن انضم إليهم الأهالى، الرجال والنساء، والبدو، وآلاف العمال المصريين الذين انضموا للعمل الفدائى، بعد أن تركوا العمل فى معسكرات الإنحليز، وتوقفوا عن إمداد جنودهم بالطعام، بل إن مبنى الشرطة بالإسماعيلية أصبح درعا لحماية الفدائيين،
هكذا انتفضت الحكومة البريطانية فزعا فى لندن، وأصدرت أوامرها للحكومة المصرية بإيقاف العمل الفدائى فورا، لكن العمل الفدائى لم يتوقف، وانتهى الأمر بأن هجم الجنود الإنجليز على مبنى الشرطة بالإسماعيلية، بالدبابات والقنابل والأسلحة الحديثة المتطورة، ولم يكن بأيدى الشرطة المصريين إلا بنادق قديمة، وتمت المذبحة يوم الجمعة ٢٥ يناير، فاندلعت المظاهرات الوطنية فى شوارع القاهرة، وأصبح ٢٥ يناير عيد الشرطة، وجاءت ثورة ٢٥ يناير بعد ستين عاما من مذبحة الإسماعيلية، فأسقطت حكم مبارك منذ سبعة أعوام، وليصبح العيد عيدين، لكن عيد الثورة أصبح يختفى بالتدريج، ويسقط من التاريخ أسماء الذين فقدوا أرواحهم، أو فقئت عيونهم، أو دخلوا السجون.
نقلا عن المصري اليوم