زيارة متحف مختار فريضة
مقالات مختارة | خالد منتصر
الجمعة ١٢ يناير ٢٠١٨
أثار شجونى التحقيق الصحفى المهم الرائع الذى نشره «الوطن» أمس عن مأساة النحت والنحاتين، وتساءلت ألهذا الحد وصلنا فى الخصام مع الجمال والتصالح مع القبح وإقحام الحلال والحرام فى كل التفاصيل حتى فى الحجر! صار الطالب فى كلية الفنون الجميلة مرتعش الأزميل لأنه يحس أنه يرتكب خطيئة أنه ينحت صنماً! كيف وصلنا إلى هذا القاع؟ لدىّ اقتراح عملى أقدمه لوزير التربية والتعليم أن تكون زيارة متحف مختار جزءاً من خطة رحلات المدارس، هذا الاقتراح فكرت فيه بعد تجربة شخصية، فأن تقرأ عن الفنان النحات محمود مختار شىء، وأن تشاهد تماثيله وجدارياته التى نحتها شىء آخر، هذا ما قلته لطاقم البرنامج أثناء تصوير حلقة من متحف محمود مختار لبرنامج «حصة قراءة»، اكتشفت أنه لم يزر المتحف أى منهم ولا أحد يعرف أين هو أساساً؟ والكارثة الأكبر أن كل من سألتهم شباباً وشيوخاً، نساء ورجالاً، عن متحف مختار وجدت منهم استغراباً واندهاشاً، فلا مختار عرفوه ولا متحفه سمعوا عنه!! تساءلت هل نحن نستحق هذا العبقرى؟ تذكرت وأنا فى أمستردام فى متحف فان جوخ كيف كان زحام أطفال رحلات المدارس الابتدائية الذين كانوا يملأون قاعات المتحف، نفس المشهد فى بيت موتسارت فى سالزبورج، وكذلك كل متاحف وبيوت القمم الفنية هناك فى أوروبا، جزء مهم من برنامج الدراسة زيارة هذه الأماكن، ونحن فى مصر مهد فن النحت نمتلك متحفاً رائعاً بهذا الشكل لا يدخله تلميذ أو طالب واحد سوى طلبة الفنون الجميلة كجزء من منهج الدراسة! طوال رحلتى وتجولى فى المتحف لم أشاهد زائراً ولو حتى بالصدفة،
كنت داخل هذا الكنز الجمالى الرائع أتحسر على الفن المصرى الذى أراه الآن فى التماثيل والمنحوتات الجديدة المشوهة التى صارت مادة سخرية على الفيس بوك، فى محراب مختار لا بد أن تحس بالرهبة وكم أنت ضئيل أمام ضربات أزميله القوية وجدارياته الضخمة وتماثيله الشامخة، تجولت مع مدير المعرض النحات طارق الكومى، تحدانى سؤال مؤرق: كيف استطاع من عاش 43 سنة فقط أن ينجز كل هذا الإنجاز؟ لو تعلم الزائر فقط من إجابة هذا السؤال قيمة العمل والجهد والعرق والرغبة فى الكمال لكان هذا كافياً، شاهدت نحاتاً مصرياً غارقاً فى طين هذا الوطن، يعشق مصر بجد، أثبت لأساتذته أنه قادر على أن ينحت على الطراز الأوروبى ولكنه حط الرحال بعد كل هذه الرحلة على الفن الفرعونى المصرى، شاهدت المرأة المصرية الفلاحة الرشيقة وهى تحمل الجرة، تمثال الخماسين، حارس الحقل، ابن البلد، تمثال صديقه ومحاميه، ثم تمثال معشوقه وزعيمه السياسى سعد زغلول، لم ينحت تماثيل ملوك أسرة محمد على بل نحت تمثال ابن الطبقة الوسطى سعد زغلول ومعه أصحاب الجلابيب،
تربى فى كنف ورعاية الأمير يوسف كمال الذى له الفضل فى إنشاء مدرسة الفنون الجميلة، وهذه نقطة نحتاج مناقشتها وطرحها، وهى البديهية التى تعلمناها صغاراً أن كل الأمراء والباشوات شياطين!!، استرعى انتباهى نقطة أخرى فى غاية الأهمية وهى أسرة مختار المحبة للفن والتى تبرعت بأعماله ومقتنياته للمتحف ودفنته فى مقبرة بداخله، وهذا يفتح ملفاً مهماً وهو ورثة الفنان عندما يكونون على هذا المستوى الثقافى الرفيع مثل العظيم الراحل بدر الدين أبوغازى فيخلد الفنان ويعيش ويعبر الزمن، لكن عندما يتحول الورثة إلى جامعى بنكنوت أو مهملى تراث، عندما لا يحس الوريث بعظمة هذا الجد أو الأب فإنه يرتكب جريمة قتل لهذا الفنان وللأسف القتلة لتراث العباقرة فى مصر كثيرون، من يتحدى الحجر يستطيع أن يتحدى أى شىء، ونحن يجب أن نعلم أولادنا فى زمن يعتبر التمثال صنماً والنحت كفراً، نعلمهم هذا التحدى، نعلمهم أنه من الممكن ولادة الجمال من الحجر، خلق المرونة من الصلب، نفث الحياة فى الجماد، واستنطاق الأخرس وتطويع وتشكيل الجبل والجرانيت.
نقلا عن الوطن