جميل يوسف
كل يوم يمضي علينا حافلا بالاختبارات الموجهة من كافة التيارات السياسية والدينية في مصروالعالم العربي ، والمحصلة في رأيي حتي الآن لاتزيد عن سوي أن فكرنا قد "تجفف" في الشعارات المعلبة ، أو أنه في أفضل التقديرات مجرد رد فعل غاضب علي ما يجري في داخل وخارج ديارنا ، أو أنه نقد ذاتي للماضي بمنطق الماضي نفسه.
ليست هناك محاولات جادة لتغيير أدوات التفكير فضلا عن استيعاب الواقع بمستوياته الوطنية والاقليمية والعالمية . والاستيعاب لا يعني الموافقة أو الرفض فكلاهما من النتائج التالية للفهم والادراك. وهناك شك شديد في أن "استيعابا" بهذا المعني قد حدث بالفعل بعد زلزال الثورة.
فهناك حزن لدي البعض وغضب لدي البعض الاخروشماتة لدي البعض الأخير. مجرد عواطف ساكنة أو عاتبة تحجب الرؤية يتخلي فيها العقل وكأنه في حالة استرخاء مطمئن الي ما سيكون ، حسنا أو سيئا ، ويحرص أصحاب هذا الفكر علي الأدوات التي تريحه نتائجها ، وهو فكر يميل الي "التمني" أو "اليأس" ،سواء بالتفاؤل أوالتشاؤم مع بقية العواطف التي ترسخت في ايديولوجيا الاحزاب أو الجماعات والحركات السياسية التي ينتمي اليها هذا البعض.
فأن رفاهية التفكير بالاماني والتطلعات الكبيرة أو ركون البعض الي اليأس أو رجم الغيب بالعواطف المستقرة تصبح من المحرمات اذا افقنا في لحظة وعي علي الحقيقة المرة والحرجة التي تمر بها البلاد أوعلامة من العلامات الحزينة علي " النهاية" اذا لم نفق.
وحتي لا يستباح هذا الكلام اذا تعرض للتعميم ، وحتي لا يتهمنا احد بأننا فلسفيون حتي النخاع ، فأن "الفكر" المقصود هنا ليس فكر الأفراد ، وانما هو الفكر السائد علي هياكل السلطة أو المعارضة أو السلفية الدينية في الشارع المصري ، فكر الدولة وفكر الأحزاب والتنظيمات المؤثرة علي "المصالح" عبر التأثير في وعي أصحابها أو في الوعي العام.
وينسي البعض الذي يتشدق ويفخر بالليبرالية وينادي بها وهو لا يعرف خطورة أبعادها وتطبيقها في مجتمع مثل مصريعصف باتجاهات وصراعات ليس لها مثل في الدول الاخري ،ويجهل هذا البعض أن جوهر الليبرالية هو أفتراض التعدد وأفتراض النقص ، ومن ثم فالتنوع ضرورة وباب الأجتهاد مفتوح، فكيف يمكن أذن وصف أي تيار ولو كان الديمقراطية بأنه وحده نهاية النهايات، ونحن نعلم مع غيرنا بأن الديموقراطية مداخل وتنويعات ومفاهيم تتفاوت وقد تتعارض بين بلد وآخرأو بين نظام وآخر، ونعلم كذلك مع غيرنا أن الديمقراطية لم تسد كافة الثغرات في الطريق الانساني الي الحرية ، فهي لم تحقق المساواة في كثير من مجالات الحياة داخل الوطن الواحد ، وهي لم تمنع الظواهر الكبري المضادة لأسس الحريات كالعنصرية والاستعمار.
وأري أن الديموقراطية الليبرالية أجتهاد عظيم في الطريق الي الحرية ، ولكنها ليست الشكل النهائي ، فما الذي يمنع في أية مرحلة من مراحل التاريخ وفي أي مكان من أنحاء العالم أن يكتشف الانسان حريات جديدة وأساليب جديدة لتحقيقها ؟
وليس العدل الاجتماعي وحده هو الذي لم تحققه الديموقراطية الليبرالية في الغرب بالرغم من التأمينات الاجتماعية الواسعة ، وتشهد منظمات العفو الدولية أن اشكالا والوانا من اهدار حقوق الانسان مازالت تمارس في الغرب كلما أتسع التعارض وتعمق بين السلطة والمعارضة، بين العمال وأرباب العمل ، بين الأجانب وأهل البلد، بين الرجال والنساء ، بين الفقراء والأغنياء ، بين الأغلبية وألأقليات الدينية والعرقية.
وليس سرا ولا مدهشا أن تعرف أن حكومات كارتروريجان وجورج بوش وكلينتون وجورج دبيلو بوش وباراك أوباما مازالت تترنم بحقوق الانسان في كل مكان وهي التي باركت الانقلابات والحكومات المعادية لحقوق الانسان في كل مكان ، وقد نشأت تقريبا كل الدكتاتوريات "الرجعية" بفضل الانقلابات التي دبرتها المخابرات الأمريكية والفرنسية والانجليزية ، وظل الدكتاتور في كرسيه طالما انه يؤدي دورا لمصلحة الغرب، فأذا أنتهت مهمته أو انتصر عليه خصومه أمكن ترحيله في الوقت المناسب الي المنفي، أو التحفظ عليه قيد الأقامة الجبرية أو التخلص منه بوسائل بشعة ، والأمثلة بلاحصر.
وحان الوقت لسحب الثقة من أصحاب هذه الحملات الذين يكيلون بمكيالين ، لأنهم حتي الآن يبسطون لنا الأيادي الناعمة من جديد ويعطونا دروسا متنوعة حول أسس تطبيق الديموقراطية، وحماية الحريات وحقوق الانسان ، وفي نفس الوقت يسعون من اجتماعات سرية خلف الأبواب المغلقة لبسط حمايتهم وضماناتهم وتاكيداتهم لدعم دكتانوريات جديدة في المنطقة نظيرالمصالح الخاصة والعلاقات المتميزة للغرب.
لقد تحالف الشرق الروسي مع الغرب الديموقراطي ونجحوا نجاحا مبهرا في خلق النموذج البشع لحكم العسكر وصنع الدكتاتور في العالم الثالث.
وكمراقب للاحداث العالمية أري ان العالم لن يحتمل كثيرا الهوة الواسعة بين الشمال والجنوب ، وبان الزمام قد انفلت من الغرب بعد مفاجئة الهبوط المدوي والسريع وغير المحسوب لمبارك وبن علي والبعض الاخر في الطريق ، ولن يحتمل العالم الثالث بعد اليوم أن تظل أجياله تحت حكم العسكرمدينة عدة قرون تعيش الذل والفقر والهوان ، ولن تحتمل البشرية كل هذه المجاعات القاتلة لملايين البشر، ولن تحتمل الدنيا أنظمة عنصرية جديدة بسبب اللون أو الجنس أو العقيدة ، ولا أنظمة تزيد الفقراء فقرا والأغنياء غني.
ولكي تجد هذه الشعوب الثائرةالمتعطشة لنسيم الحرية والكرامة الطريق لتحقيق أهدافها ومصالح شعوبها واحلام ابناءها ، لابد ان تنتظم هذه الاشواق كلها في محاولات البحث عن بدائل تطهرت من الماضي وأحتفظت بأجمل وأنبل ما في التراث الانساني وأضافت تاريخها وتراثها وأبداعاتها في عالم تغلب عليه شرائع الغابة ويدعم الفساد ويمد العون للدكتاتوريات ، ومازال تتصارع فيه المصالح الكبري التي خلع أصحابها الآن قفازاتهم الحديدية وأرتدوا قفازات من حريرنووي.
ليس من صالحنا الآن ووسط كل هذه الفوضي العارمة للتيارات الحزبية والدينية المتصارعة للوصول الي السلطة بأي ثمن ، أن نجترالأفكاروالأقوال وتجارب الشعوب المتحضرة صاحبة التاريخ العميق في اليموقراطية والحريات المدنية وحقوق الأنسان بدون انتهاج ايديولوجيات جديدة وبرامج خاصة بنا ومجتمعاتنا تصبغ تاريخنا وتراثنا الحضاري وتعبربوضوح وصدق عن مجموعة الأفكار والقيم والعقائد والمفاهيم والطموحات التي يعتنقها الناس بوعي أو يدون وعي وعفوية في تفسيراحوال الدنيا وتبرير مواقفهم منها.
والخوف علي مستقبل هذه الأمة يأتي من التيارات والحركات الاسلامية التي خرجت من جحورها بعد الثورة وتنحي مبارك وسقوط نظامه الأمني ،ومازالت تمارس أساليبها القمعية مرة بالرأي والفتاوي ورؤيتها الرجعية لمستقبل مصر، ومرات اخري بلي ذراع المجلس العسكري ومجلس الوزراء بأشاعة الفوضي والتحريض بالتصادم وأرهاب أقباط مصروالتهديد بزعزعة الاستقرار والوحدة الوطنية.
أن ما يجمع الجركات الأسلامية والسلفية في مصر وأي مكان في العالم أنها حركات سياسية وليست "تيارات دينية" كما تسمي عمدا لدي البعض.
أن أفعالها وردود أفعالها الأساسية لا تخرج عن الدائرة السياسية. أن دعواتها الي تكوين أحزاب تحت مسميات خادعة وتطبيق الشريعة الأسلامية وعدم المساس بالمادة الثانية من الدستور والأبقاء علي الأضافات والتعديلات الأخيرة للدستوروتنظيراتها للعنف هي أعمال سياسية وهذه الأعمال تصوغ في العمق وعلي السطح احلام وطموحات فئات وقوي وشرائح اجتماعية لها مصالح تجد في فكر الجماعات الأسلامية والسلفية وسلوكها حصانتها الايديولوجية وكتيبتها الصدامية.
علينا أن لا نستسلم الي حالة الاسترخاء والتخبط وغياب الرؤية والبوصلة الفكرية في الشارع المصري والعربي ، ولا نتحول الي صفوف المتفرجين الذين يفكرون بالاماني ، ويدلا من رؤية الواقع يرجمون الغيب.