ما زلت أتذكر منذ أيام الطفولة المبكرة أن كراسة المدرسة فى كل مكان فى مصر كان غلافها الخلفى يتضمن نصائح مفيدة ومبسطة وقصيرة حفظناها جميعا عن ظهر قلب وكان من أبرزها وأهمها عبارة شهيرة هى «النظافة من الإيمان» وكان ما رسخ فى أذهاننا كأطفال حينها أن النظافة تتضمن الوضوء والنظافة الشخصية ولكن إلى جانب ذلك تعلمنا من الجو المحيط بنا أنه علينا أن نحافظ على نظافة الفصل ونظافة أدراجنا الخشبية التى نضع بها الكتب المدرسية طوال اليوم كما كان من واجباتنا أن نحافظ على نظافة حوش المدرسة أثناء الفسحة وعدم إلقاء أية مهملات على الأرض أيا كان نوعها وامتدت «ثقافة النظافة» معنا إلى الشارع والمنزل، وبالتالى كانت الشوارع أيامها أكثر نظافة وكان فى مقدورك أن تمشى فى الشوارع المصرية باطمئنان دون قلق من أن تغوص قدماك على حين غرة فى أكوام من مختلف أنواع القمامة لم نكن نشاهدها إطلاقا فى شوارعنا، ولكننا نشاهد منذ سنوات طويلة نقلة «نوعية» فى ثقافة النظافة ليس فقط لدى الجمهور ولكن أيضا لدى الحكومة بنفس القدر.
ولا يمكن أن يكون هذا الوضع المؤسف الذى وصلنا إليه اليوم هو بسبب اختفاء الكراسة المدرسية القديمة ذات النصائح فحسب، فلابد من وجود أسباب أخرى والبعض يرى أن ما حدث أيام قتل الخنازير أيام الإنفلونزا التى أطلق عليها اسمها قد أثر أيضا على نشاط جامعى القمامة والتخلص منها بعيدا عن شوارع القاهرة بينما يفسرها آخرون بالتعاقد مع الشركة الأجنبية التى فشلت فى جمع القمامة فشلا ذريعا وبدأت أكوام الزبالة تقارب ارتفاع المبانى دون أن نرى حلا ولا عقدا فى قضية الزبالة التى أصبحت مزمنة.
وهنا أعود إلى مسألة الربط بين النظافة والإيمان والتى تبدو أسبابها مفهومة لدى الكافة لأطرح سؤالاً آخر يتعلق بتصاعد المقولات التى يؤكدها ضيوف الفضائيات الذين يظهر على سيماهم الورع من أن إيماننا يتزايد يوما بعد يوم وتديننا لا شك فيه وقد أصبح بالقطع أفضل من أيام كراسة المدرسة القديمة، فإذا كان الأمر كذلك فلماذا، يا سادتى، لا تحثون الناس على النظافة وتجعلونها من الأولويات فى أحاديثكم، خصوصا بعد تزايد إيمانهم؟ فمن المفترض، وفقا لكراسة المدرسة القديمة، أن النظافة من الإيمان، وبالتالى يصبح منطقيا أنه كلما زاد إيماننا كما يقولون ازدادت نظافتنا وهذا ينطبق على المواطنين والحكومة سواء بسواء، فلماذا لم يحدث ذلك؟.
هل السبب فى ذلك أننا قد توقفنا عن تعليم أطفالنا ضرورة النظافة؟ أم هل أصبحت النظافة غائبة عن جدول أولويات الحكومة؟ هل نفتقر للقوانين الصارمة التى تردع من يستهين بضرورة احترام النظافة فى الشارع المصرى؟ أم هل يستثقل ضيوف الفضائيات عند الحديث عن الإيمان أن يتحدثوا إلى الناس عن فضل النظافة التى هى من وجوه الطهارة التى حث عليها القرآن الكريم؟ أم أننا قد قررنا أن نربط مفهوما آخر بالإيمان بدلا من النظافة؟ وهل يليق بنا أن نصبح أكثر إيمانا وأقل عناية بالنظافة؟ أم هل أصبح إيماننا شكليا ومظهريا أكثر من اهتمامنا بالجوهر؟.
وهذه، يا سادتى، مسألة جوهرية تتعلق بمدى اهتمامنا بالقشور بدلا من المضمون، فهل هناك ما هو أولى بالاهتمام أكثر من تشجيع المصريين على النظافة؟ أم أننا قد فقدنا الأمل فى إيجاد حل حقيقى لهذه المعضلة فرمينا الكراسات القديمة وتوقفنا عن مطالبة الحكومة بالوفاء بتعهداتها المتكررة بالقضاء على مشكلة القمامة لنتركها للأجيال القادمة؟!.
نقلا عن المصرى اليوم