كانت ذكرياتى تركض أمامى هذا الصباح، الذكرى الحادية عشرة لرحيل فؤاد ناشد عجمى، والخامسة لرحيل د. وجيه شكرى، أمين حزب التجمع بالمنيا، الجراح النابغة، الطبيب الإنسان، المناضل اليسارى، القبطى الوطنى، رحل فى صمت، وشهوده جدرانه الأربعة.. وكما يقول أحمد عبدالمعطى حجازى «فى هذا الزحام لا أحد»!، آه يا جرحى المكابر، صباح الخير يا وجيه، صباح الخيريا فؤاد صباح الخير.. قما احملا فراشكما وامشِيا، وطننا فى حاجة إليكما فى زمن صار فية الأقباط كما قال السيد المسيح «كغنم لا راعى لهم»، وأصبح العبيد هم السادة، والانتهازيون أصحاب الصفوف الأولى فى الكنائس، وفى الإعلام الطائفى فى المقدمة، كنت تناضل من أجل الوطن والكنيسة ضد جماعات الإرهاب، وكانوا هم يلعقون أحذية سادتهم فى الحزب الوطنى «المنحل»، أو يترشحون على قوائم الإخوان، ويسرقون الصندوق كيهوذا تمهيدًا لخيانة سيده.
مقلتا عينى فؤاد ووجية: فؤاد ناشد القديس المناضل الذى دفع حياته على مذبح الوطن، كنت فى ريعان الصبا حينما دلفت إلى عمق الوطن من صفاء ابتسامته التى كانت أكثر عذوبة من النيل فى 1975، كانت مصر تبتهج من نصر أكتوبر وتئن من انفتاح السادات على الرسمالية المتوحشة ويستعين بالإخوان لضربنا نحن اليساريين، كان فؤاد لى الأب ووجية التؤام، تعرفت على فؤاد أثناء تأسيس منبر التجمع الوطنى، جنبا إلى جنب مع الراحلين المناضلين: أنور إبراهيم يوسف عضو مجلس محلى المحافظة، والدكتور إبراهيم أبو عوف نقيب أطباء الأسنان بالمنيا، والقيادات العمالية، أحمد عبدالعزيز وأحمد رشاد وأحمد شوقى، والقادة الفلاحين عبيد عياد مرجان وشيخ العرب فاروق أبوسعيد، كنت الأصغر ولكنى كنت آخر من ينام وأول من يحلم، وكان الأقرب إلى هو فؤاد ناشد، المهندس الزراعى ومسؤول تنظيم الحزب منذ التأسيس وحتى الرحيل، أحب وطنه كما أحب كنيسته، وبعد أن هجم السادات على التجمع بعد انتفاضة يناير 1977 وألقى القبض على معظم قيادات الحزب، وسجن من المنيا أنور إبراهيم وأحمد عبدالعزيز وأحمد رشاد وفتح الله خفاجى وأنا، لم يبقَ خارج الأسوار سواه، وبتواضع قام برعاية أسر المعتقلين وأعطى لمن هم خلف الأسوار الأمل، كل ذلك قام به فى صمت ودون أن يعلم أحد، وكان يفتح مقر الحزب ويجلس فيه بمفردة لساعات ويسافر إلى القاهرة، ويأخذ نشرة الحزب «التقدم» ويوزعها سرا على الأعضاء بعيدا عن أعين الأمن، وفى نفس الوقت يجوب يصنع خيرا للفقراء، ويهتم بالعمل النقابى فى نقابة الزراعيين، واستطاع رغم هجوم السادات الضارى على اليسار أن يفوز بعضوية مجلس إدارة النقابة الفرعية بالمنيا نوفمبر 1977، وحينما خرجنا من المعتقلات وجدنا الحزب قامته عالية، واستطاع أن يجمع شتات اليسار وأن يضم الطبيب الشاب د. وجية شكرى الذى صار أمين التجمع فيما بعد. ووسط الملاحقات الأمنية كان يستطيع دائما أن يزرع بذور اليسار فى قرى سمالوط من طرفا غربا إلى بنى خالد شرقا، وسافرت للدراسة 1978 فى موسكو وعدت 1987 لأجده كما هو القائد القوى المتواضع الصامت، كان التجمع حينذاك يضم قادة مسيحيين خدام حقيقيين مثل فؤاد ناشد والدكتور الصيدلى رمزى فهيم، والدكتور مهندس ميلاد حنا، والمحامى عريان نصيف وآخرون، وطوال الثمانينيات والتسعينيات كان بطلنا فؤاد ناشد يقود السفينة ويقدمنا نحن الشباب للقيادة ويجلس هو فى مؤخرة الصفوف.
رحل أنور إبراهيم وأحمد عبدالعزيز وأحمد رشاد وعمى عبيد عياد وظل فؤاد سنديانة وارفة يستظل بظلها الفقراء والفلاحين الإجراء وأسس مع عبيد عياد وعريان نصيف وشاهنده مقلد اتحاد الفلاحين تحت التأسيس، وجاب معهم القرى والنجوع المنسية الأسماء على طول الشط، ولم يبخل فؤاد ناشد من جهد فى الانتخابات البرلمانية التى قادها الحزب بالمنيا فى معاركة، وانتصر فى كل معاركة إلا معركته مع المرض، حيث وافته المنية 2007.
هذا هو فؤاد ناشد البطل الذى لا يحتفى به أحد، رحل فى صمت كما عاش فى صمت، ويبدو أن عمنا فؤاد ناشد سيظل يضحى حتى بعد رحيله، ولكن أبدا لن أنساك يا معلمى والرمز الوطنى والكنسى، الرجل الهادئ الذى لا يعلو صوته فى الأزمات، مملوء بالرجاء «قصبة مرضوضة لا يكسر وفتيلة مدخنة لا يطفئ»، سلاما عليك وعلى وطنك وعلى حزبك، وستظل تعيش فينا ما حييت.
فى مقلة العين الأخرى يربض د وجيه شكرى، حين نظرت إلى صورته المتكئة على الحائط، فوجدته فى القرب وفى البعد جميلًا.. بكيت قليلًا فارتحت قليلًا، لست أدرى هل كنت تتكئ على جدار اليسار الأخير أم أن الجدار هو الذى كان يتكئ عليك؟ هل أبكيك أم أبكى نفسى.. أبكى جيلى.. أبكى اليسار.. أم أبكى فيك وطنًا يتسرب كالمياه من بين أصابعنا؟
كان وجيه شكرى امتدادًا لمدرسة أنور إبراهيم، وفؤاد ناشد، وجنبًا إلى جنب مع أحمد عبدالعزيز وآخرين حملوا راية اليسار فى المنيا وسلموها لنا، كانت الجماعات المتأسلمة ترهب الجميع إلا اليسار.. كنا نسير معك وأنت مرفوع القامة تبشر بالزمن القادم من أعماق الجرح، وأحلام المناضلين العشاق، كنا معك من أوائل من أخرجوا الكنيسة للوطن، وبحثنا عن الوطن فى الكنيسة، وحملنا وديعة الإيمان بالوطن والكنيسة فى روحانية وطنية لا تعرف الطائفية، اقترن فيها لاهوت الأرض بلاهوت التحرير، والفقر الاختيارى بالحلم المصرى، والعفة السياسية بالطاعة للضمير الوطنى والفقراء.
يا أيها الشهداء أتوق إليكم، وأصدقائى أقول لكم ما قاله محمود درويش لأصدقائة: «أصدقائى، من تبقى منكم يكفى لكى أحيا سَنَةْ.. سنة أخرى فقط.. سنة تكفى لكى أعشق عشرين امرأة وثلاثين مدينة سنة واحدة تكفى لكى أعطى للفكرة جسم السوسنة».
نقلا عن اليوم السابع