«ولاد البلد» يجوبون أرجاء مصر
مقالات مختارة | فاطمة ناعوت
الخميس ٢٣ نوفمبر ٢٠١٧
لا تنكسِرُ مصرُ رغم النصال تكسّرت على النصالِ فى خصرها. لكنها لا تمَسُّ القلبَ. ليس لأنها مذكورةٌ فى القرآن والإنجيل، وحسب، فذلك شأنُ السماء لا حيلةَ لنا فيه. أمّا شأننا فى الأرض، فهو الخيطُ الرفيع الذى حافظت عليه مصرُ منذُ نشأتها: الفنون الرفيعة. والمسرحُ، دُرّة تاج الفنون، ليس رفاهيةً وترفًا، بل عقلُ المجتمعات وضميرُها. هو ضمانةُ بقاء المجتمع، لأنه «مدرسةُ تعليم الكبار»، مثلما المدرسة لتعليم الأطفال. إن هوى المسرحُ ضَمَر عقلُ المجتمع، لأنه الظهير الذى يمنع نفاذ النصل إلى قلبه. ومصرُ حالٌ فريدة. لا تتوقّفُ مسارحُها حتى فى لحظات الحروب والإرهاب والكساد. بوسعك أن تصطحب أسرتك يوميًّا إلى أى مسرح من مسارح الدولة، لتشهدَ بجنيهات قليلة عرضًا ثريًّا. المسرح فى مصر هو نبضُ القلب الذى لا يتوقف، مهما توعّك الجسدُ. ذاك هو سرُّ مصر الخاص. وهنا يتوجّبُ شكرُ المخرج إسماعيل مختار، رئيس البيت الفنى للمسرح، الحريص على ألا يتوقّف ذلك النبضُ يومًا، فلا ينسدلُ ستار مسرح إلا ليُفتح للعرض التالى، من رفيع الأعمال التى تستحق شرف الوقوف على خشبات مسارح الدولة.
فى قاعة «صلاح جاهين» بمسرح البالون، شاهدتُ أمس الأول عرضًا جميلا ينتمى لمدرسة: «الكباريه السياسى»، من تأليف مصطفى سليم وإخراج محمد الشرقاوى، وموسيقى حازم الكفراوى، وغناء صوت مصر العذب فاطمة محمد على. «ولاد البلد»، تابلوهات درامية استعراضية تناقشُ اثنين من أخطر النصال التى تضربُ خاصرةَ مصرَ ترومُ إهلاكَها: الإرهاب، والفساد.
أحد أجمل تلك التابلوهات يحكى عن صديقين من صعيد مصر. وهدان: مسلم متزوج وأبٌ لفتاة، وقطب: مسيحى أعزب. وحين ضُربت السياحةُ، قرر وهدان استضافة قطب ليعيش فى داره البسيطة لتقليص نفقات بيتين، بعد بناء حائلٍ من الخشب بين الغرفتين. وفى لحظة إرهاب مُرّة اقتحم متطرفون البيت للبحث عن المسيحى لتهجيره أو قتله، فنجحت الأم والابنة فى إخفائه بحيلة طريفة، لا أودّ حرقها، لينجو من سيوف السفاحين.
الطريف هو قرار المخرج أن يؤدى شخصيةَ المسلمَ ممثلٌ مسيحى، هو «شادى أسعد»، وأن يؤدى دورَ المسيحى ممثلٌ مسلمٌ، هو «ياسر الرفاعى». هنا تكتمل الرسالة.
العرضُ الُمثقل بقضايا سياسية واجتماعية ثقيلة، مضفورٌ بجرعات عالية من كوميديا الموقف. منها حين ينسى «قطب» ويقرأ «الفاتحة» مع صديقه بعد الاتفاق على أمر، ثم يتذكّر فجأة أنه مسيحى، فتغرق القاعة فى الضحك، ثم يهدر تصفيقُ الاحترام حين يُذكّر كلٌّ منهما الآخر أن «آمين» فى نهاية الفاتحة تجمع بين المسلم والمسيحى. والحقُّ أنها لا تجمعهما فقط كصديقين اختلفا فى العقيدة واجتمعا على الحب، بل تجمع بينهما كمصريين، لأنها تعود إلى الكلمة المصرية القديمة «آمون»، وتعنى: «الإله الخفىّ»، أو «رب الشمس» فى الميثولوجى المصرى، وتُنطق: «آمِن»، بنفس طريقة نطق كلمة Amen، التى يقولها كلُّ البشر فى ختام الصلوات، على تباين العقائد والمذاهب.
يطرح العرض الثرىّ قضايا حيوية مثل «الهجرة غير الشرعية»، التى تحول حلمَ الهروب من ضائقة العيش إلى كابوس البحث عن رفات الجثامين فى أغوار البحار. وينتهى بمشهد ماسٍّ فى كتيبة من كتائب الجيش المصرى بالعريش، تجمعُ الفرقاء من أبناء الوطن، على هدف الذود عن شرف مصر ضد غيلة الإرهاب. وكأنما قررت السماء أن يجمع الموتُ بين الصديقين كما جمعتهما الحياةُ. حين لم يسمحا للعقائد أن تفرق بينهما، فقررت قذيفةٌ إجرامية أن تُنهى حياتهما فى لحظة واحدة فى زيّهما العسكرى، فيموتا متعانقين، يحاول كلٌّ منهما أن يتلقى الموت بدلا من صديقه ويحميه بجسده من شظايا القذيفة، ليختلط الدمُ المسلم والمسيحى ليروى تراب مصر الطيبة.
كلَّ احترامى للدكتورة «أمل جمال»، بوزارة الشباب والرياضة، التى قررت أن يجوب العرضُ محافظات مصر، فى رحلة تبدأ الاثنين القادم بأسوان. وشكرًا يا مصرُ، لأن مسرحك نابضٌ وحىٌّ وغزير، مهما تواترت عليكِ المحن.
نقلا عن المصري اليوم