قال الكاتب «هانس رافورتى» عام ٢٠١٤: «حرية الضمير، هى المبدأ الجوهرى للبروتستانتية». إن دراسة كتابات المصلحين الإنجيليين ومواقفهم، تظهر مساهماتهم الأساسية فى إرساء الفلسفات: اللاهوتية، والفكرية، والإنسانية، حول الحريات، ومنها: حرية الضمير، والمعتقد، وحريات حقوق الإنسان. إن إطلاق المصلح مارتن لوثر لموقفه الشهير، وعبارته التاريخية الصاعقة، «ضميرى أسير لكلمة الله»، فى مجمع «وارمس» عام ١٥٢١، عندما طلب منه الإمبراطور والسلطات الكنسية، تحت ضغوط التهديد والوعيد، أن يتراجع عن موقفه المصلح ويحرق كتاباته ويوقف أصلاحه، كما أن إعلانه الجرىء: «إن لم أقتنع بكلمة الله فى الكتاب المقدس، والعقل السليم، بأنى على خطأ، لن أتراجع، فضميرى أسير لكلمة الله، أن أسير ضد الضمير، ليس آمنًا ولا صحيحًا، هنا أقف، لن أتراجع، فليساعدنى الله»؛ فإنه وضع سلطة الضمير الأسير لكلمة الله، أعلى من أية سلطة كنسية أو مدنية أخرى، فبالنسبة للوثر، لا المنطق السليم، ولا الضمير المجرد، هما مستقلان بحد ذاتهما.
ولا يحكمان فى مواقف وتصرفات الإنسان المسيحى لوحدهما، بل فقط الضمير الأسير لكلمة الله، له السلطان الأول للحكم فى مواقف وحياة وتصرفات الإنسان المؤمن، عرّف لوثر، الضمير المسيحى، على أنه «الحقل السرى، بل الحقل اللاهوتى، الذى يتم فيه صراع كبير بين الإنسان والله، فيخلصه الله بالإيمان، من الشريعة الديانة وغضب الله وقوة التجارب التى تعصف فى الضمير»، وكلمة الله تعلن فى الضمير، آمن لوثر أن كلمة الله، تسمو وتعلو على كل قوى الإنسان الفكرية، وهى توجه ضميره وتملى عليه تصرفاته ومواقفه الجريئة مهما كانت التهديدات ضاغطة.
اختبر مارتن لوثر، أن حرية الضمير، تنحدر من مبدأ «التبرير بالإيمان وحده»، يقول لوثر: «عندما يقبل الله الإنسان الخاطئ ويبرّره بإيمانه وحده وليس بأعماله؛ فإنه يغفر خطاياه، ويمنحه حرية الضمير، وهذا الوعى للحرية، يحدث فى الكيان الداخلى للضمير، هذه الحرية لا تنبع من خارج الإنسان؛ لأنه لا يأتى من خارج الإنسان ما يمنحنا التبرير والحرية، بل تنبع من الإيمان فى داخل الإنسان؛ لأن الإيمان هو عطية من الله، وعندما نختبر حدث الإيمان، بقبول المسيح الذى يعلنه الإنجيل؛ فإن حدث الإيمان يغيّر النفس ويبررها ويطلقها حرة، وهكذا يملى الله فكره مباشرة على ضمير الإنسان، ويصبح ضميره الوسيلة التى من خلالها يعلن الله عن إرادته للبشر، وبالتالى، فإن حرية الضمير المرتبطة بكلمة الله، ليست من صنع الإنسان ولا الكنيسة، بل عطية الله للإنسان المؤمن»، وهكذا بهذه المبادئ والأفكار اللاهوتية، أنشأ لوثر ما يسمى بـ«مملكة الضمير»، المرتبطة بكلمة الله التى تمتلك السلطة فى كل شىء. وأصبح للضمير المرتبط بكلمة الله، مكانة أساسية فى فكر وكيان الإصلاح الإنجيلى، وقد قال: «الضمير لا يحتمل سيدًا زائلًا، ولا يمكن أن يربك نفسه بمسائل إنسانية، فضمير المسيحى لا يعترف سوى بسلطة واحدة هى سلطة الله»، أصرّ لوثر فى الحضور المميز لله وحده فى ضمير المؤمنين، للتأكيد بأن الإنسان المسيحى، هو مسئول بشكل مباشر أمام الله، أيضا من المصلحين الذين، دافعوا كثيرا عن مبدأ حرية الضمير، المصلح «سيباستيان كاستليون» (١٥١٥ - ١٥٦٣)، الذى كان إنجيليًا فرنسيًا، اضطر إلى ترك فرنسا هربًا من الاضطهاد، بعد قبوله لمبادئ الإصلاح الإنجيلى، لقد قال: «على الإنسان أن يقبل الإيمان المسيحى بقناعة، لا يجب على الحكام والقادة أن يضطهدوا الذين لديهم معتقدات أخرى، لا تنسجم مع تعاليم الإيمان المستقيم، بل من واجبات المسيحى أن يحترم إيمان الآخر، حتى لو لم يتفق مع فهمه وتفسيره»، استشهد كاستليون، بمواقف وكتابات آباء الكنيسة، ليدافع عن حرية الضمير والفكر، ومنهم: أوغسطينوس، ويوحنا فمّ الذهب، وترتليان. قال القديس ترتليان: «إنه حق إنسانى أساسى، وامتياز الطبيعة، بأن يعبد كل إنسان بناء لقناعاته»، لكن على الرغم من أن حرية الضمير والفكر والمعتقد، لم تتحقق بشكل فعلى فى زمن الإصلاح، إلا أن معظم المؤرخين واللاهوتيين، يعتقدون أن الإصلاح الإنجيلى أرسى المبادئ اللاهوتية والفكرية الأساسية لها، ثم بنى على هذه الأسس، أتباع المصلحين الأساسيين، إلى أن تحققت حرية الدين والمعتقد فى الدساتير وقوانين الاعترافات اللاحقة.
نقلا عن البوابة نيوز