في عيد ميلاد "جارة القمر".. فيروز في عالم صنع الله إبراهيم
فن | البوابة نيوز
الثلاثاء ٢١ نوفمبر ٢٠١٧
جزء أصيل من نسيج الحياة اليومية.. رمز لبنانى يجتمع حوله الفرقاء ويتوحدون تحت رايته.. حضور قوى متوهج.. وشهادة سياسية فنية
فيروز
يتسع عالم صنع الله إبراهيم الروائى لعدد غير قليل من أعلام وعلامات ورموز الفن العربى، وتتباين المواقف تجاههم بما يتوافق مع توجهات وأفكار الشخوص من ناحية وطبيعة السياق الذى يتم استدعاؤهم فيه من ناحية ثانية، يتجسد ذلك بوضوح فى الموقع الذى تحتله فيروز فى «بيروت بيروت» الرواية المتفردة التى تعبر عن إيقاع الحياة اللبنانية الحافلة بجملة من السمات المتنافرة المتناقضة بقدر ما هى متكاملة فى الكشف عن خصوصية الواقع اللبنانى المعقد.
سبع إذاعات لبنانية فى عام ١٩٨١ تعبر عن اتجاهات وولاءات مختلفة، ولكل إذاعة ما يميزها ويساعد فى الكشف بلا صعوبة عن هويتها، ولا مشترك إلا فيروز. عندما ينطلق صوتها، يسأل الراوى صديقه وديع، الأكثر خبرة، عن توجه الإذاعة، وتأتى الإجابة الدالة الكاشفة: «كل الإذاعات تذيع أغانى فيروز، رغم أنها مارونية».
«مارونية» فيروز لا تجعل منها حكرا على طائفة بعينها فى أطراف الصراع اللبنانى الدامى، فهى ملكية مشتركة ورمز لبنانى يعلو على الخلافات.
فيروز
تنتصر القيمة الفنية لفيروز على التناحر الطائفى الذى يميل إلى الإقصاء والتصنيف الصارم المغلق من منظور الهوية، ولا تختلف مكانة «جارة القمر» على الصعيد العربى، والتمزق سمته الرئيسية عبر مختلف العصور، فى سهرة ببيت الفرنسى جاك ليروك وزوجته، يتساءل المضيف:
- فيروز أم كلثوم؟
ويرد الراوى
- باخ.
ضحك وهو يقلب فى مجموعة من الأسطوانات:
هذا هو سر فشل اليسار العربى، الجرى وراء الثقافة الأوروبية والانفصال عن الشعب.
الاستماع إلى باخ، وغيره من رموز الموسيقى الغربية، لا يعنى الانسلاخ عن الشعب وقضاياه، ولا يمكن أن يكون تعبيرا دقيقا عن أزمة اليسار العربى بطبيعة الحال، لكن المثقف الفرنسى يسخر على طريقته، وهى سخرية تعبر فى جانب منها عن المكانة الراسخة التى تحتلها أم كلثوم وفيروز، القيمتان القادرتان بفضل عطائهما الفنى الفريد المتميز على تجاوز التصنيف الإقليمى الضيق. الانحياز إلى باخ وأشباهه يقتصر على طائفة محدودة النسبة من المثقفين أصحاب الذائقة الفنية الغربية، وهو توجه يختلف بالضرورة عن الكتلة الشعبية العريضة.
ليست صدفة أن تجتمع أم كلثوم «المصرية» وفيروز «اللبنانية» عند جاك ليروك «الفرنسى» ذلك أن نجومية فيروز تولد وتنتشر بالاتكاء المبكر على موروث مصرى شامخ، يتمثل فى ألحان سيد درويش، وعندما تقوم الفرقة المصرية للموسيقى العربية بزيارة لبنان، يتضمن برنامجها ما يؤكد الصلة: «بدأ الحفل بأغنية سيد درويش المعروفة التى اشتهرت بها فيروز.. زورونى كل سنة مرة».
من منطلق هذه المكانة العتيدة والجماهيرية العريضة، تمارس فيروز دورا بالغ الأهمية فى الفيلم التسجيلى الذى تتضمنه رواية «بيروت بيروت» عن الحرب الأهلية اللبنانية، فهى بمثابة الموسيقى التصويرية متعددة الدرجات والظلال، وفى وجودها الدائم وحضورها المتوهج ما يشير دائما إلى لبنان ومأساة الشعب اللبنانى.
العالم الروائى لصنع الله إبراهيم
حضور ساحر
يبدأ الفيلم بمجموعة من اللقطات العامة التى تستعرض الطبيعة اللبنانية الخلابة، ثم يظهر المزارعون والرعاة، وبعدها يطل صوت فيروز: «راديو ترانزستور فوق حمار، فيروز تغنى يا طير الوروار».
قبل شروع الراوى فى المتابعة الدقيقة المتأنية لمشاهد الفيلم، تمهيدا لكتابة التعليق، المصاحب له، كان قد اكتشف منذ المشاهدة الأولى حقيقة الوجود الكثيف لفيروز وأغانيها: «وتردد صوت فيروز الساحر فى أكثر من أغنية».
ليس هذا بالموضع الوحيد الذى يخرج فيه الراوى عن قاعدة التزام الحياد، ويصف صوت فيروز بأنه «ساحر»، ففى مشهد آخر عند الاستماع إلى أغنية «زورونى كل سنة مرة.. حرام تنسونى بالمرة» يوصف صوت فيروز بأنه «ملائكى».
مثل هذا التوصيف الحماسى لا يبديه الراوى مع أحد غير فيروز، ولا يظهر فى العالم الروائى لصنع الله إبراهيم عند التعامل مع أصوات وشخصيات أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وعبدالحليم حافظ.
يستمر حضور فيروز القوى المتوهج الدال، ويقدم الفيلم التسجيلى ليلة قروية لبنانية، ومجموعة من الشباب المؤيدين لجمال عبدالناصر والوحدة العربية، ثم يطل صوت فيروز:
«فيروز تغنى، حبيتك بالصيف حبيتك بالشتى».. فيروز فى أغنية أخرى تتميز بإيقاع سريع غربى.
كانت باللهجة اللبنانية فلم أتمكن من تمييز كلماتها، وأشرت إلى أنطوانيت أن تعود إليها، فأوقفت العرض، ومدت يدها على طارة متصلة بمحور المافيولا، فحركتها ببطء فعاد الفيلم إلى الوراء، بدت لى الأغنية مألوفة، لكنى عجزت مرة أخرى عن تمييز كلماتها، وأدركت بعد لحظة ما اجتذب انتباهى إليها، فقد كانت الموسيقى لأغنية أوروبية شائعة، وبدا مزيج العامية اللبنانية والموسيقى الغربية الراقصة غريبا.
أوضحت أنطوانيت:
- الأغنية اسمها.. «كان زمان»..
أهى الأغنية وحدها التى تستحق عنوانها الشجنى الدال: «كان زمان»؟! أم أن موضوع الفيلم كله يخضع للعنوان نفسه؟!
الإيقاع السريع المقتبس من الغرب فى أغنية فيروز لا يختلف عن الإيقاع اللبنانى المقتبس شكليا من الحياة الغربية، دون مراعاة للفارق الكبير بين الفنين والحياتين!
أغنية «كان زمان» ليست بالنموذج الاستثنائى النادر لاقتباس الرحبانية فى أغانى فيروز، ويستعين الفيلم بأغنية فيروز الشهيرة، «يا أنا أنا وياك»، فيعلق الراوى: «موسيقى الأغنية مقتبسة عن سيمفونية لموتسارت».
وفى موضع آخر، يشير إلى أغنية «مذنب» الفرنسية، فهى التى اقتبست منها أغنية فيروز «حبيتك بالصيف».
هذه الاقتباسات المتنوعة، وهى ظاهرة فنية عربية شائعة لا تقتصر على الرحبانية وحدهم، لا تخدش عظمة وتفرد فيروز، ذلك أن الحياة اللبنانية المضطربة قائمة على فكرة الاقتباس العشوائى، وأغانى فيروز هى الأكثر دقة وصدقا فى التعبير عن هذه الحياة، لبنان الحقيقية الكامنة تموج بعناصر معقدة من التفاعلات المتشابكة التى تتجاوز الاقتباس الغربى، ويجمع اللبنانيون فى أعماقهم بين الإعجاب بزعيم مثل عبدالناصر وصوت فيروز، كما يقول الفيلم من خلال لقطتين متتابعتين:
«صور جمال عبدالناصر فوق جدران الأكواخ.
صوت فيروز: نظرتك بالصيف.. نظرتك بالشتى».
الزعيم القومى، وصوت فيروز. القصر الفاخر، والموسيقى الراقصة المستخدمة فى أغنية «كان زمان».
حزمة هائلة من التناقضات، وحياة لا تعرف الاستقرار الحقيقى، والانفجار قد يحدث فى أى وقت.
فيروز وزوجها عاصى الرحبانى
غضب وحزن
فى ظل التفاوت الطبقى الشاسع الذى تتسم به الحياة اللبنانية، وبالنظر إلى الانقسام الطائفى والطوفان العارم من المصالح المتناحرة للقوى الإقليمية والدولية، يبدو منطقيا ومبررا أن يشتعل الغضب وتتجمع سحب الصراع متعدد الوجوه، وعندئذ يبدأ الزلزال المدمر. لا تتخلف فيروز عن المواكبة والتعبير والتواصل مع واقع السخط والضيق:
«فيروز فى المقطع الحماسى الأخير من أغنية زهرة المدائن.
الغضب الساطع آت.
الغضب الساطع آت وأنا كلى إيمان.
من كل طريق آت».
قد تكون أغنية «زهرة المدائن» عن القدس، وهو ما يؤكده عنوانها ومضمونها، لكنها بالضرورة تشير إلى الغضب الأشمل والأعمق، والمنبثق من كل طريق.
فيروز، فى الفيلم والرواية معا، جزء أصيل مؤثر فى نسيج الحياة اليومية اللبنانية، وفى منزل الناشر صفوان يدير شريطا لفيروز فى جلسة عمل وشراب لا متسع فيها للاستماع والإصغاء، ليس المهم أن تسمع بتركيز، لكن وجود صوتها يبدو مألوفا عاديا بقدر ما هو ضرورى.
من ناحية أخرى، لا ينفصل الجانب الشخصى فى الحياة العائلية لفيروز، كما يقدمه صنع الله، عن الملامح الموضوعية. ابنها زياد الرحبانى، مثلها، ملك لجميع اللبنانيين بمختلف طوائفهم: «طوال الحرب الأهلية، كان القتال يتوقف تماما فى السابعة من مساء كل يوم، ليستمع كل اللبنانيين إلى برنامج زياد الرحبانى، ابن فيروز، فى الإذاعة اللبنانية».
«ابن فيروز» شهرة الأم قد تسىء إلى الابن وتدفعه إلى النفور، والعلاقة بينهما تتحول إلى نموذج للتمرد. بها تتمثل مخرجة الفيلم التسجيلى أنطوانيت، وتكشف عن تمردها على الموروث المارونى المتعصب الذى تنتمى إليه عائليا:
«أنتِ مثل زياد الرحبانى إذن؟
- زياد كان متمردا على أمه
- وأنت؟
- أنا متمردة على الوضع كله».
فيروز، وكل من ينتمون إليها تجسيد لقيمة شامخة يجمع عليها اللبنانيون، ويجتمعون، يختلفون حول أى وكل شىء آخر، لكن صوت فيروز الملائكى الساحر قادر على إعادة تجمعيهم وترويض ما بينهم من تناقضات وصراعات. من المبرر إذن أن يتسع الفيلم التسجيلى عن الحرب الأهلية اللبنانية لصورة عائلية شخصية تجمع بين فيروز وزوجها عاصى الرحبانى: «صورة تذكارية لفيروز وعاصى الرحبانى فى شهر العسل بالقاهرة سنة ١٩٥٥».
فيروز ليست امرأة لبنانية عادية، وليست مطربة كغيرها من عشرات المطربات، لكنها رمز من رموز لبنان وسر من أسرار تفرده. حياتها الشخصية تذوب فى النسيج العام للوطن، ومفردات تاريخها جزء من التاريخ الوطنى الذى لا يمكن تجاهله.