الأقباط متحدون - البابا والتنوير
  • ١٤:٣٦
  • الأحد , ١٩ نوفمبر ٢٠١٧
English version

البابا والتنوير

د. عايدة نصيف

مساحة رأي

٢٤: ٠١ م +02:00 EET

الأحد ١٩ نوفمبر ٢٠١٧

البابا والتنوير
البابا والتنوير

 د/ عايدة نصيف
أرى أن مفهوم التنوير ينطلق إلى هدف أسمى هو خير الوطن والمجتمع وخير الإنسانية ونجد القيم التنويرية متجسدة في عقول مفكري التنوير في العصر الحديث، ولن يتم تحقيق ذلك المفهوم إلا بالانفتاح على الآخر، ونجد أن مفهوم التنوير مرتبط بمفهوم المعرفة الإنسانية بكل أنواعها المعرفة الفنيّة، والمعرفة الدينية، والمعرفة الفلسفيّة، والمعرفة العلميّة، والمعرفة الإنسانيّة، والمعرفة الروحية، وفي العيد الخامس لتجليس قداسة البابا تواضروس الثاني على الكرسي المرقسى أتطرق إلى موقف قداسة البابا تواضروس الثاني من قضية التنوير والتي هي العامل الأساسي في تجديد الفكر.

 
فموقف قداسة البابا تواضروس الثانى من التنوير موقف واضح وذلك يتضح من خلال كتاباته وعظاته وحواراته مع كل فئات المجتمع الكنسي بصورة خاصة، والمجتمع المصرى بصورة عامة؛ ففى المجتمع الكنسي منذ أن اعتلى كرسي الكرازة المرقسية وجدناه يقيم حوارا مع الشباب والأطفال والكبار والمرأة ومع الإكليروس والخدام والمخدومين، واضعًا أمامه ثلاثة أمور الله والإنسان والعالم برؤية إيجابية تتفق مع التعليم الأرثوذكسي وتتفق مع ثقافة العالم المعاصرة، وله رؤية تجديدية تتفق مع روح الإنجيل والتقليد الكنسي والتاريخ المسيحي آملًا أن ينشر مفهوم التنوير من خلال التصور المسيحي ونستطيع أن نلمس ذلك من خلال مواقف عديدة. 
 
فخدمة الوطن الأرضي لا تعطل خدمة الوطن السمائى ومن ثم فجمع الإنسان بين الصفات اللازمة للأولى وضمها إلى الثانية، تقدم الإنسانية في أعلى صفاتها لكيفية خدمة الله وتتفوق تفوقًا بارعًا؛ لتكون صورة الله في العالم المادى، وترتفع بمستوى الأحداث إلى هدف أعلى وإلى سلوك وطني مخلص ينفع الوطن. 
 
هكذا قداسة البابا تواضروس الثاني في رؤيته للتنوير والمعرفة والانفتاح على الآخر بهدف تمجيد الله؛ فمنذ أن اعتلى قداسة البابا تواضروس كرسي الكرازة المرقسية وجدناه يضع أمام عينيه الكنيسة والوطن؛ لأنه أدرك برؤية عميقة أن الكنيسة الوطن الصغير جزءً من الوطن الكبير مصر، وإن صحت الكنيسة صح الوطن والعكس صحيح أيضًا. مرَّ خمسة أعوام ووجدنا إصلاحاته الداخلية للكنيسة وإسهاماته برؤيته الروحية لتماسك الوطن، نظر إلى الكنيسة ورأى أن الإصلاح لا يأتي إلا من التعليم. تعليم ورفع مهارات المعلمين والخدام وتقديره لقيمة العقل.
 
ويتحدث قداسة البابا تواضروس عن مفهوم العقل الذي هو بمثابة قاطرة الحكمة والانفتاح والتنوير، والانفتاح على الآخر وأتذكر المقولة الفلسفية الشهيرة عند سماع قداسة البابا عن مفهوم العقل "أن العقل أعدل الأشياء قسمة بين البشر" ويُعرَف في الفلسفة أن الإنسان كائن عاقل أي يمتلك العقل فهو يمتاز عن أي كائن بالعقل.
 
وأجد في الواقع أن مفهوم العقل عند قداسة البابا تواضروس مرتبط بالحكمة والاستنارة والانفتاح؛ حيث يرى أن القراءة تجعل من العقل منفتحًا، ويرى أنه يجب أن يكون عقل الإنسان حكيمًا، ويربط قداسة البابا تواضروس بين العقل والإيمان بين العقل والكرازة، وبين العقل والتعليم ويذكرنى بقول القديس أوغسطينوس"أؤمن كى أتعقل"؛ أي أن العقل الحكيم ضرورى للإيمان والفهم بل والكرازة والتعليم. 
 
يقول قداسة البابا تواضروس "عقولنا يجب أن تنفتح" (محاضرة قداسة البابا تواضروس كنيسة العذراء الزيتون، 26-8-2015)، ويقول أيضًا في ذات المحاضرة: "العالم يتغير ويجب أن تواكب عقولنا التغيير". ويؤكد قداسة البابا على أهمية العقل بقوله "إن العقل في وسط الحواس كميزان لها". 
 
ويقول في سياق ذلك قداسة البابا تواضروس "إن الخطية تجعل عقل الإنسان ضيقا" وهنا ربط قداسته بين الخطية وضيق العقل أي العقل المتشدد الذي يُصر على الخطأ دون المعرفة ودون الحوار، ويرى قداسة البابا تواضروس الثانى أن العالم الذي يتطور يحتاج إلى العقل المنفتح ويعوّل على موقف القديس بولس الرسول عندما وقف يدافع عن فكرة العقل المنفتح بواسطة الفكر حيث يرى قداسته أن لكل زمن التغيير الخاص به، ويرى أن الإنسان المسيحي ينبغى أن يكون له دائمًا فكرًا منفتحًا في حياته ولذا يؤكد قداسته على احتياجنا دائما للعقل المنفتح.
 
ويحدد لنا البابا صفات العقل المنفتح فهو عقل عملى يراعى الزمان الذي فيه ويراعى التغيير، وعقل محاور والحوار هو الانفتاح وتقبل الآخر المختلف، وعقل مهموم بقضايا المجتمع سواء على مستوى العائلة أو الكنيسة أو الوطن، وهنا أرى مفهوم قداسة البابا عن العقل الفعال المنتج الذي يشمل المعنى الوجودى للإنسان. بل يشير البابا الىعقل واقعى لا يتكلم في النظريات فقط ويراعى الزمن، حيث يرى أن الإنسان صاحب الفكر المنفتح إنسان واقعى وليس خياليا. 
 
ويؤكد البابا تواضروس على العقل المُبدع والمبتكر حيث إن ابتكارات الإنسان لا تنتهي، وهنا يربط ويشير إلى أهمية التفكير الإبداعي وعقل يفكر في المستقبل كيف يكون وكيف يخطط له بطريقة جيدة. بل يؤكد على أهمية توعية العقل وضبطه أي أن ضبط العقل على حد قوله "اضبط عقلك بالحكمة، تعلم من مدرسة الحياة وتعلم من التاريخ فالتاريخ هو الحياة "، وأرى هنا العلاقة بين التاريخ وبين الوعى الإنساني، التاريخ وحركته من خلال الخبرات الحياتية التي تتجسد في التاريخ من خلال العقل المستنير الذي يريد أن يسير في طريق الحكمة. 
 
ويشير أيضًا إلى أن العقل المُنتح يقود الإنسان إلى الله ويعوّل على الكتاب المقدس "إن وصية الرب مضيئة" مز 119. ويضيف أن العقل المنفتح عقل محاور. وشروط العقل المنفتح كما يرى تتمثل في القراءة والمعرفة حيث يرى أن الإنسان عندما يقرأ ويعرف يخطو نحو العقل المنفتح. يقول قداسة البابا تواضروس في كتابه ثلاثيات "نقول مبارك هو ذلك العقل الذي أودعه الله في الإنسان لينطق ويصنع كل هذا التقدم والذي قال عنه الله حين خلقه أنه حسن جدًا". 
 
ما سبق سطور موجزة تمثل بعضًا من فكر البابا التنويري، فمن خلال مواقفه وخدمته، نجد شخصية البابا تواضروس الثانى أب قلبه مُحب للجميع وعقله مُنظم وفكره مُستنير ومُبدع ومُحب للتجديد والتطوير ويهتم بالمبدعين، بالإضافة إلى أنه يتميز بالهدوء والحكمة والتواضع في آنٍ واحد، ومُحاور جيد، ومُستمع ممتاز، ويجيد ترتيب أفكاره ويؤكد على التخصص في العمل، ويؤمن بأهمية العمل الجماعى والمؤسسي ويفتخر دائمًا بالهوية المصرية، ويُشيد بوطنه وله رؤية مستقبلية ذات بُعد تجديدى.
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع