د. مينا ملاك عازر
فرنسا من الدول الاستعمارية التي وإن خرجت من بلد محتلاها، تبقي بينها وبين تلك الدول أواصر الصلة ممدودة وموصولة، ليس فقط لأنها تترك الكثير من أهلها يتقنون لغتها الفرنسية ولكن برباط سياسية لا يمكن محوها، ومزايا لا ينكرها غير جاحد، تبقيهم على صلة بها، بل أنها تهتم بهم وبقضاياهم وتجمعهم في منظمات كالمنظمة الفرانكفونية التي تضم جمع الدول الناطقة بالفرنسية تحت لواءيها، وبالمناسبة كان الراحل الدبلوماسي العظيم الدكتور بطرس غالي أميناً عام لها بعد أن غادر منصبه كأمين عام لمنظمة الأمم المتحد خاصةً وأن فرنسا كانت تدعم استمراره لفترة ثانية في منصبه بالمنظمة العالمية الأمم المتحدة، ولما فشلت أمام المد الأمريكي عينته تكريماً له أميناً في المنظمة الفرانكفونية.
ولنعود لاهتمامات فرنسا بالدول التي كانت بها، وإبقائها على جسور التواصل ممدودة سياسياًواقتصادياً،وفي بعض الأحيان أمنياً، فلنرصد اهتمامها بغرب أفريقياوإرسالها قوات مسلحة وسلاح لدعم مالي أمام المد الإرهابي الذي تمثله منظمة بوكو حرام النيجيريةالمنشأ، ونجحت فرنسا في دعم مالي وتطهير البلاد من بوكو حرام بنسبة كبيرة، ومدت جهودها للنيجر، وهكذا كانت فرنسا ولم تزل مهتمة بكل ما يجري بمن كانت تستعمرهم وتدعمهم.
ونرى هذا جلياً في الوضع اللبناني، فلقد سافر ماكرون بنفسه للسعودية لتقصي الأمر وللاطمئنان على الشيخ سعد الحريريرئيس الوزراء اللبناني المقال من قبل بن سلمان -الأمير السعودي- وحاول إبرام صفقة لإخلاء سبيله بيد أن السعوديين حاولوا رشوة ماكرون بدعمهم مالياً لجهود الدول الخمس وقواتها العسكرية في شرق أفريقيا، ولما كنت من الظانين بأن ماكرون قبل الرشوة وغادر السعودية، فأقدم له الاعتذار، فقد بدى لي هذا واضحاً بأن المال فعل فعلته واشترى صمته، لكنه يبدو أن ذلك كان جزء من صفقة يبرمها ويجريها، ويقوم الآن وزير خارجيته جان إف لودريان بمحاولة حثيثة لإخلاء سبيل الحريري وتركه وأسرته للعودة لباريس وليس بيروت، ويبدو أن ذلك منطقياً، فربما الحريري نفسه لا يأمن على نفسه في بيروت، ولعل قتلة أبيه الذين هاجمهم من السعودية متربصين له؟ ولعله يرى في باريس بديل مناسب أو لعل بن سلمان يرى في باريس البديل الذي يثبت عدم تورطه في توقيف الحريري وفي نفس الوقت لا يعيده لبلده حيث بيروت ويكشف للناس ما فعله به السعوديين، ويبدو أن الصفقة قد تكون قائمة على أن يسافر لباريس سواء منفرداً أو معه أسرته، ويبقى مقيد الفم بلا فرصة للحديث، وبالطبع أنه لو ترك أسرته بالسعودية سيبدو واضح للكل ومبرراً موقفه الصامت والمؤكد على استقالته الطبيعية دون توقيف ودون ضغوط سعودية وإن غادرت أسرته في معيته لباريس سيبقى الالتزام الفرنسي قائم بضمانات مقدمة للسعودية بعدم تجاوز الحريري الحدود السياسية المحدد بداخلها، وألا يتطاول على ابن سلمان وعدم فضح أفعاله ضده،وهو في حصانة دبلوماسية لاعتلائه منصب رئاسة الوزراء اللبناني، على العموم لا أظن أن لودريان سيغادر الرياض في معيته أحد من أسرة الحريري ولا الحريري نفسه بل قد يسافر الحريري لاحقاً لباريس أو لبيروت ولكن حينئذ سيكون تحت حماية فرنسية وبضمانات للسعودية، وبذلك يبقى الشك يقيناً، موجهاً أصابع الاتهام نحو ولي العهد السعودي بأنه تجاوز الأعراف السياسية بتوقيفه رئيس وزراء دولة أخرى، وتجاوزه كل الحدود واستيلائه على أرض ليس من حقه، وأموال أمراء قد يكونوا فاسدين وقد لا يكونوا، لكن المؤكد أن السبب في فتح ملفاتهم أنهم لم يدعموه وصندوقه، وقد يكونوا تآمروا على حلمه في الحكم.
المختصر المفيد قولوا للأكل الحرام يخاف، بكره الحرام يفسده.