اليمنيون يترقبون رحيل صالح ويتطلعون إلى الدولة المنتظرة
في مؤشِّـر على تحوّل المواقف الدولية والإقليمية تُـجاه التطورات التي تشهدها اليمن، توالت خلال الأيام القليلة الفارطة الضغوط الخارجية على الرئيس اليمني المطالبة له بنقل فعلي وسلِـس للسلطة، ما يفتح الباب واسعاً لنقاشات حامية حول خلفيات ومآلات هذا التطور، خاصة لجهة الدولة المُـنتظرة بعد رحيل صالح.
ففي تطور لافت، طالبت الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وبريطانيا وإيطاليا، الرئيس اليمني أن يستجيب لمَـطالب الشعب اليمني بالتنحي عن السلطة، وترافَـق ذلك مع صدور إدانات واسعة من قِـبل هيئات ومنظمات دولية وأممية لأعمال العنف المروِّعة ضد المحتجِّـين والمعتصمين في الساحات العامة.
عوامل تحوّل مواقف الأطراف الدولية
ويعزى هذا التحوّل في مواقف الأطراف الدولية والإقليمية إلى عدد من العوامل، يأتي على رأسها القمع الوحشي الذي واجهت به السلطات الاعتصامات السِّـلمية المطالِـبة بالتغيير، والتي أسفرت حتى لحظة كتابة هذا التقرير عن سقوط أزيد من 100 قتيل وحوالي ألفي جريح في صفوف المحتجِّـين في عموم ميادين الاعتصامات في مناطق البلاد، فضلا عن سقوط 200 قتيل و100 جريح بانفجار مصنع الذَّخيرة في محافظة ابين، جنوب البلاد، جرّاء ما يُـقال أنه من تدبير السلطات أو ناتج عن إهمالها بترْك مرفَـق عام يحتوي على مواد خطِـرة على حياة الناس، التي أنكرت السلطات أن ليس لها أي علاقة بها، ما وسع دائرة النِّـقمة والسخط الشعبي والدولي، خاصة من قبل الهيئات والمنظمات المعنية بحقوق الإنسان التي صنّـفت تلك الممارسات كجرائم ضد الإنسانية.
العامل الثاني، ما باتت تطلِـق عليه وسائل الإعلام الداخلية والخارجية: مراوغة صالح وتقلّـباته حِـيال مبادرات نقل السلطة التي عرضت عليه، وآخرها التي وافق عليها أواخر الشهر الماضي بحضور وإشراف سفراء أمريكا والاتحاد الأوروبي في صنعاء، والتي كانت تقضي بتسليمه السلطة إلى نائبه وتشكيل حكومة وِحدة وطنية بالتّـوافق مع المعارضة وشباب الثورة، إلا أنه انقلب عليها وبدأ الحديث عن أنه لن يسلِّـمها إلا إلى أيادي أمينة، وهو ما اعتبره الشباب المحتجّ والمعارضة، مواصلة للنّـهج ذاته الذي اعتاد عليه الرئيس اليمني، معتبرة أن طريقة تعامله مع الثورة الشبابية ليست سوى استمرار لسياسات قديمة، درج عليها منذ ما يزيد على ثلاثة عقود، غيْـر مُـدرك للتحوّلات التي طرأت على المجتمع وتنامي مطالبه، خاصة وِفق ما يراه رئيس مجلس تنسيق الثورة الشبابية الأستاذ عبد السلام جابر في حديثه لـ swissinfo.ch، تعامله مع القضية الجنوبية التي يجري إغفالها، على الرغم من انطلاق الحِـراك الجنوبي منذ عام 2007، علاوة على أن التطوّرات التي تشهدها المنطقة العربية لم يقرأها بدقّـة وتمعُّـن، وإنما يقرأها بالأفكار والقناعات ذاتها التي درج عليها ورسَّـخت لديه ولدى النُّـخبة الحاكمة مع مرور الزمن صورة نمَـطية، فيما المجتمع، حسب جابر، تجاوز تلك الصورة وهو اليوم يتطلّـع إلى دولة مدنية تستوعِـب كل الآمال والطموحات التي غيَّـبها النظام على مدار العقديْـن الأخيريْـن.
العامل الثالث، رِهانه على أن الغرب يحتاج إليه من أجل مكافحة الإرهاب، خاصة مع صدور إشارات من واشنطن بأن هذه الأخيرة ستواجِـه مصاعِـب في مواجهة الإرهاب بعد سقوط صالح، إلا أن انضمام قادة كبار في الجيش وشيوخ قبائل إلى المطالبين بإسقاط النظام، والذي حمل معه بوادِر تصدّع في صفوف الجيش، قلَّـص رهانه وبات يطرَح معه نذر انقِـسام في المؤسسة العسكرية والقبلية، الذي قد يوفِّـر بيئة آمنة لانتشار الجماعات الجهادية المتطرفة، لاسيما في المحافظات النائية (صعدة والجوف ومأرب وشبوة وأبين)، التي سقطت في أيْـدي المحتجِّـين بعد انسحاب الشرطة والجيش، وهي المحافظات التي تتركّـز فيها نشاطات مجاهدي القاعدة.
العامل الرابع والأهَـم، مواصلة احتجاجات المتظاهرين وتوسّـعها، لتشمل أكثر من 15 مدينة يمنِـية وتمسّـك المعتصمين من يوم إلى آخر وإصرارهم على مواجهة العُـنف بالطُّـرق والوسائل السِّـلمية، إلى الحدّ الذي جعل نهْـج الثورة اليمنية مثيرا للإعجاب بترْك رجال القبائل لأسلحتهم في منازلهم والانضمام إلى الاعتصامات المطالِـبة بتغيير النظام بالطُّـرق السِّـلمية.
قاعدة الرحيل الآمن لصالح
انشغال الساحة اليمنِـية بالخلفِـيات التي أفضت إلى تبلوُر المواقف الدولية على النحو الذي بات يُـقرأ على أنه تخلٍّ خارجي عن الرئيس اليمني قد يقرب من رحيله، خاصة بعد إفصاح مصادر خليجية أن توسّـطها في الملف اليمني، الذي جاء بناءً على ضوءٍ أخضر من واشنطن وبروكسل، يتأسّـس على قاعدة الرحيل الآمن لصالح، إلا أن ذلك أثار بالمقابل الكثير من السِّـجال حوْل مرحلة ما بعد صالح، خاصة لجهة الدولة اليمنية المُـنتظرة والمأمولة.
خليط أيديولوجيات متنوِّعة
فكما هو معروف، يضم اللقاء المُـشترك أهَـم أحزاب المعارضة، وهي خليط لأيديولوجيات متنوِّعة، دينية وقومية، اشتراكية متنافِـرة في بعض رُؤاها وتصوّراتها، فضلا عن أن ماضيها مُـثقل بالكثير من الخِـلافات، التي لم تتراجع حدّتها، إلا بفعل السياسات الإقصائية التي مارسها الحزب الحاكم وربّـما رئيسه صالح ضدّهم على مدار العقدين الأخيرين، وهي السياسة التي وحَّـدت جبهتهم ضدّه وجعلتهم يلتقون على هدف المطالبة برحيله، قبل الدخول في أي تفاصيل للمرحلة اللاحقة.
وإلى جانب أحزاب اللقاء المشترك، سيبقى الحزب الحاكم، المؤتمر الشعبي العام فاعلا سياسياً، لأن لا المعارضة ولا الشباب يطالبون باجتثاثه أو بحلِّـه، على غِـرار مطالبة الثوار في تونس ومصر، ثم هناك شباب الثورة الذين يصنّـفون أنفسهم كمستقلِّـين ويرون أنهم الحامِـلون الحقيقيون للثورة، وأنه لا يمكن تجاوزهم بأي حال وِفق ما أكّـدت عليه بيانات التحالفات والتكتُّـلات الشبابية، التي بدأت تتبلوَر في ساحات التغيير والحرية المنتشرة في المدن اليمنية، والتي ترفع من سقف مطالبها إلى الحدّ الذي لا يقبل بدون تحقيق الأهداف التي خرجوا من أجلها، ثم هناك الحِـراك الجنوبي وما يرفعه من مطالب، بعضها سياسي والبعض الآخر حقوقي، وكذلك تواجد الحوثيين في شمال البلاد.
ثم هناك الثِّـقل العسكري والقبَـلي، الذي التَـحق بالثورة وأعلن تأييده لها، كل هذه المكوِّنات والتشكيلات السياسية تشكِّـل قِـوام الخارطة السياسية اليمنية وترسم مشهداً سياسياً غائِـم الوضوح، وِفق ما يذهب إليه مراقبو الشأن اليمني.
ويطرح ذلك المشهد على الشارع اليمني سؤالاً ملِـحّـاً يدور حول طبيعة الدولة اليمنية القادمة، بما هي دولة وطنية مدنية حديثة أم دينية تُـسيطر عليها الأحزاب الدينية أم استمرار لنموذج الدولة التقليدية المشوّهة بمزجِـها بين المظاهر المؤسسية الحديثة من جهة والخضوع للبنى الاجتماعية التقليدية، كالقبيلة والعشيرة والأسرة والمنطقة، من جهة أخرى؟
ويساور الشارع اليمني قلَـقا كبيرا كلما أثيرت تلك التساؤلات، التي يبدو أن الإجابات عليها حالياً مؤجّـلة إلى ما بعد رحيل صالح، الذي تضعه جميع تلك القوى على رأس أولوياتها كخطوة في طريق التحوّل نحو بناء الدولة المأمولة.
وارتفع الحديث عن الدولة المأمولة بارتفاع التوقعات برحيل صالح، التي تزايدت فُـرصها مع دخول أطراف دولية على الخط ومحاولات أطراف سياسية، خاصة حزب الإصلاح ذو التوجّـه الديني، الذي يتوجّـس البعض منه خيفة، لاسيما مع سعيه إلى فرض هيمنته على الساحات والميادين العامة، وما يحظى به من رعاية من قِـبل بعض قادة الجيش الذين انضمّـوا للثوار.
إلا أن عبد السلام جابر لا يرى سبباً للمخاوف من انحياز أولئك القادة العسكريين إلى طرف في الساحة على حساب أطراف أخرى، لأن ثورة الشباب، على حد تعبيره، محصّـنة في إطار واحد ولها مطالِـب واضحة لا تقبل أن تساوم عليها، لكن جابر لم يستبعد حضور بعض من تلك المخاوف والهواجس، إلا أنه أردف قائلاً: "كل الشباب يطرحون مثل هذه القضايا ويضعون في حسبانهم مطالب محددة متمسكين بها، وهم على وعْـي كبير بأهميتها، وجميعهم يلتقون على حتمِـية الدولة المدنية الحديثة، باعتبارها المخرَج من المأزق الذي وصل إليه اليمن".
تساؤلات ومخاوف
بقدر ما تثير مثل هذه التساؤلات المخاوف جرّاء تنوّع القوى السياسية اليمنية وتبايُـن منطلقاتها الأيدلوجية، فإنها تحتِّـم توافقها على دولة تحترم وترعى هذا التنوع، ويحيلون في ذلك إلى الوثائق التي اتّـفق عليها الأطراف السياسيون في مراحل سابقة والتي جاءت كمحصِّـلة للأزمات التي مرّوا بها مثل: وثيقة العهد والاتفاق عام 1994 ووثيقة الإنقاذ للحوار الوطني التي توصّـلت إليها المعارضة وحلفاؤها العام الماضي (2010)، ثم اتفاقات ومحاضر الحِـوار بين المعارضة والحزب والمحاكم بشأن الإصلاحات السياسية والدستورية والانتخابية، وجميعها يُـمكن تطويرها بالشكل الذي يستوعِـب مطالب كل الفاعلين السياسيين، بما فيهم الفاعلين الجدد من الشباب، ويؤسّـس لدولة مدنية ديمقراطية حديثة لا مركزية، باعتبارها الخيار الأقل كُـلفة وضرَراً، من أي بديل آخر لا يقوم على التراضي والتوافق الداخلي من ناحية أو لا يحظى بقبول الأطراف الإقليمية والدولية، التي تظل طرفاً فاعلا، لاسيما لبلد محدود الموارد والإمكانات كاليمن.
الخلاصة، أنه في الوقت الذي تتطلّـع الساحات إلى رحيل صالح، يتزايد النِّـقاش حول الدولة اليمنية المُـنتظرة منذ اندلاع الاحتجاجات في الشارع اليمني وتنتعش الآمال بقدوم هذا الكيان الغائب، حسب ما يؤكده أغلب اليمنيين.
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :