نُخب التوهان وإعلام أكثر توهاناً
مدحت بشاي
الأحد ٢٩ اكتوبر ٢٠١٧
مدحت بشاي
medhatbe@9gmail.com
في زمن القتلة والجنون الجماعي لأمة بأكملها تنسحب الحكمة إلى مخبئها ويغدو صوت الحق و الدعوة إلى الرشادة والتعقل والتمدين والتثقف والتغيير مثل نهيق حمار تائه في الصحراء لا يسمعه احد للأسف ..
فى البيت والزقاق والحارة والشارع، وفى كل منتديات النخبة، حتى فى الجلسات المخملية للناس المنشية يحكى الجميع عن احتياجنا المُلح لاكتساب مجموعة ثقافات وقيم وسلوكيات إيجابية مغايرة فى مقابل تنحية أخرى سلبية، منها مواجهة الذات ونقد مثالبها، وثقافة المساءلة والمحاسبة، وثقافة التطوع والتبرع والوفاء والاعتذار عن الخطأ، والانتماء، وتعظيم قيم المواطنة، ورفض أخلاقيات التمييز، والعمل فى إطار الجماعة والانخراط في العمل المجتمعى العام ، ودعم العمل بإيقاع وحس وطنى بعد تفشي الإحساس بالاغتراب والفوضى والانشطار والتشرذم الإنسانى، وتغليب مفهوم الصالح العام مقابل الإفراط فى الأنانية والذاتية، ثم ثقافة احترام التبادلية مع الآخر من باب التثاقف والتفاعل والتلاقى، وأخيراً دعم ثقافة القول والبوح الطيب والجرىء بعيداً عن مزايدات الشعارات والتبارى فى طرح الأطر النظرية الحنجورية المتداعية.. وصدق أمير الشعراء أحمد شوقى"إذا أصيب القوم فى أخلاقهم، فأقم عليهم مأتماً وعويلاً"..
نعم التغيير ضرورة، وقد أكد حتمية إحداثه خروج الشعب المصرى بالملايين فى 25 يناير، 30 يونيه طلباً لمجتمع ودولة جديدة.. ولا شك أن طلب تغيير مثل تلك الثقافات السابق الحديث عنها حكاية ملحة، لأنه وببساطة ما جدوى دستور جديد، ووضع سياسات تنموية واقتصادية متقدمة، ونحن نعانى من خطابات دينية وأخرى ثقافية وإعلامية متخلفة تزرع فى مواطننا البسيط قناعات ومبادئ قادرة على نسف جهود كل القوى الوطنية المخلصة لرسم ملامح أركان دولة مدنية معاصرة..
لقد صرح الدكتور جابر عصفور وزير الثقافة السابق أن نصيب المواطن المصرى فى ميزانية وزارته 16 قرشاً، والرجل لا يطرح حلولاً لدعم تلك الميزانية لأنه يرى أن الوقت غير مناسب، والحقيقة أن من أسباب تدهور تلك الميزانية فصل قطاع الآثار عن وزارة الثقافة، فما تحققه المتاحف والمواقع الأثرية من دخل مادى كان يدعم إلى حد كبير تقديم مشاريع ثقافية، ولكننى أرى أن التمترس الغريب خلف سبل الأداء النمطى، وإدارة المنظومة الثقافية بشكل حكومى تقليدى بليد هو السبب الرئيسى فى عدم نمو نصيب الفرد فى ميزانية وزارة الثقافة، وأذكر أنه من بين أسباب تراجع دور المؤسسة الرسمية لإدارة العمل الثقافى نحو تغيير الخطاب الثقافى الأمور التالية:
أولاً: تراجع الإعلام عن الأنشطة الثقافية الجادة والناجحة جماهيرياً، وأذكر فى هذا الإطار ما كان من إصرار من جانب صفوت الشريف الوزير الأشهر للإعلام على تهميش مساحات الإعلام عن الأنشطة الثقافية نظراً لحالة المنافسة الخايبة بين وزيرى الإعلام والثقافة فى مجال الظهور على الساحة وعبر سنوات كثيرة وُجِدا فيها فى تشكيلات حكومية متعاقبة.. وكان وزير الثقافة فاروق حسنى كثيراً ما يعرب عن دهشته لغياب أنشطة وزارته على الخريطة البرامجية للتليفزيون المصرى، وحتى عندما تم تخصيص قناة للثقافة وأخرى للتنوير (التى تم إغلاقها بغباوة قرار رغم نجاحها النسبى عن القناة الثقافية) لم تكن هناك خطة لتقديم أنشطة الوزارة بشكل جذاب وجماهيرى، وإلى حد مطالبة فاروق حسنى فى نهاية وجوده الحكومى بإنشاء قناة تليفزيونية للوزارة تتولى وزارته إداراتها وإعداد خططها التنويرية.
ثانياً: رغم نجاح تجارب تسويق وبيع الأنشطة الثقافية فى عدد من التجارب والمحاولات على مستوى القطاع الخاص وأشهرها تجربة «ساقية الصاوى» لم يحاول مسئول حتى فى مجال قطاع الثقافة الجماهيرية أن يستفيد من معطيات نجاح تلك التجربة فى تحقيق تواصل معقول مع الشباب وأيضاً تحقيق العائد المادى المحفز دون مبالغة تشجيعًا للتواصل مع طالبى تلك الخدمات وللصرف على قطاعات ثقافية تشكو من الميزانيات الضعيفة..
ثالثاً: الخيارات السيئة لقيادات العمل الثقافى، وهو ما ينبغي معالجته باختيار قيادات من خارج الوزارة يتم تقديمها بناء على دراية حقيقية ووعى بمتطلبات تطوير العمل الثقافى والتنويرى (على ألا يكون على أساس الدرجة الأكاديمية مثلاً، فيتم اختيار أستاذ جامعى لم يساهم بأى شكل من الأشكال فى إثراء العمل الثقافى فيكون على مثال رئيس قطاع الثقافة الجماهيرية الأستاذ الدكتور الذى استشهد فى عهده عشرات المبدعين على مسرح قصر ثقافة بنى سويف!! (