شعب متدين بالمظهر
مقالات مختارة | أمينة خيري
الاثنين ١٦ اكتوبر ٢٠١٧
كلاكيت 19 ألف مرة بعد المليون. نعم أصاب مفهومنا عن الدين والتدين عوارًا شديدًا عميقًا معيبًا مقيتًا. وهذا ليس عيبًا. فكم من أمم ودول وممالك تسقط فى غياهب الجهل والنزق والحمق، لكنها تعاود الصعود لتلحق بركب التقدم. لكن العيب كل العيب أن تستكمل هذه الأمم انزلاقها نحو القاع وهى تعاند وتعافر وتقاوم بصلف وعنجهية وتملأ الخواء حولها صراخًا من نوعية «نحن الأقوى» و«الأجدر» و«الأجسر». وبينما هى ترتطم وتتخبط فى الطريق نحو القاع تبرر ارتطامها بأنه «غيرة الآخرين من قوتنا وبأسنا» وتعلل تخبطها بأنه «مخطط أممى للنيل من شطارتها وحذاقتها».
وقد جانبتنا الشطارة وخاصمتنا منذ وقعنا فى غرام عبارة «نحن شعب متدين بالفطرة». أراحتنا العبارة وهدأت من روع فشلنا وتقهقرنا ومضينا قدمًا عكس المسار بسرعة تنافس الضوء حتى قيل إننا سبقناه وفى أقوال أخرى صرعناه، وكيف لا نصرعه وسجلنا حافل بسبل قهر المنطق وسحله ودفعه إلى الانتحار.
وبينما العالم من حولنا يركض نحو الأمام، نناقش سبل نكاح الميتة ومشروعية مضاجعة البهائم. وبينما هذا العالم الراكض يحملنا جميل الدفاع عن حقوق الإنسان ويلون دفاعه بألوان سياسية بغيضة تارة ويلطخها ببقع مصالح مقيتة تارة أخرى، إذ بنا لا نلتقط طرف الخيط ونعمد إلى بعض من ذكاء وقليل من دبلوماسية ولو حتى على سبيل الضحك على الآخرين.
وحتى أشهر قليلة مضت كان الخطباء يصرخون فى مكبرات الصوت «اللهم عليك بالشيعة ومن شايعهم وباليهود ومن هاودهم والنصارى ومن ناصرهم والشيوعيين ومن شايعهم. اللهم أحصهم عددًا واقتلهم بددًا ولاتغادر منهم أحدًا». جهود جهيدة تٌبذل من وزارة الأوقاف وحدها دون غيرها للسيطرة على الأوبئة والفيروسات التى يتم ضخها فى داخل بيوت الله عبر توحيد موضوع الخطبة، وهى الجهود التى قوبلت وما زالت بمقاومة شديدة ورغبة أكيدة فى إطلاق ألسنة «المجاهدين» من على المنابر لنشر الدين بمفهومهم، وترهيب الأقليات بطريقتهم الحنجورية التهديدية التى لا تليق إلا بالعصور الوسطى والبدائية. لكن البدائية فى الحنجورية والعناد فى مواجهة الواقع الأليم يرفضان أن يتوقفا أو يتمهلا.
التمهل الذى طالب به البعض قبل تسمية جريمة طعن القمص سمعان شحاتة «إرهابية» أى مقترفة ضمن عمليات قيام مسلمين متطرفين بقتل غير مسلمين كنوع من أنواع الجهاد وتطويق «الكفار» وإعلاء شأن الإسلام منطقى لكنه مثالى. منطقى لأن المنطق يطالب بالتريث قبل تسمية الجرائم وتصنيفها، لكنه مثالى لأننا بشر ويستحيل أن نطالب بعدم الربط بين مقتل رجل دين مسيحى على يد شخص وصفه المقربون منه بأنه «تطرف» فى الفترة الأخيرة. وسواء اتضح أن القاتل «متطرف» أو «مختل» أو قتل القمص بخلافات شخصية أو مالية إلخ، تظل أجواء ما ألم بالمصريين فى العقود الأربعة الأخيرة من هسهس التديين المغلوط يحوم فى الأفق ويتحكم فى حياتنا ويعرقل مصرنا. مصرنا التى تحيى الذكرى السنوية الثالثة للدعوة إلى تجديد الخطاب الدينى، هذه الدعوة التى أطلقها الرئيس السيسى فى يناير عام 2015، وتلقفها السفهاء باعتبارها دعوة إلى محاربة الإسلام والقضاء على المسلمين، وتعامل معها المتربصون فى الداخل والخارج من منطلق كونها أداة قذرة يضيفونها إلى أدواتهم فى تصوير جماعة الإخوان باعتبارها جماعة سلمية تتعرض للقهر والتعذيب والسحل رغم أنها لم تنتهج العنف يومًا، وحار أمامها المصريون بين حالم متمن بأن تتبلور لتنقية مصر مما شابها من تدين مظهرى وتديين مغلوط وتحجيب للحقيقة بجلباب معيوب، وبين خائف مذعور خضع على مدى سنوات لعمليات غسل دماغ ممنهجة للسيطرة عليه وقهقرته عقود للوراء.
أقول «تحيى» ولا أقول «تحتفى» وأقول «ذكرى الدعوة لتجديد الخطاب» ولا أقول «ذكرى تجديد الخطاب»، فالدعوة قوبلت بحائط منيع ممن هم قادرون على الإحياء (أو ربما يفترض فيهم الإحياء). والتحركات الحادثة على الأرض تشير إلى العكس تمامًا. فها هى المدارس الدينية وتلك الخلطبيط البزرميط حيث «المدرسة الإسلامية الأمريكية» و«البريطانية الإسلامية».. إلخ، مازالت ترتع فى أدمغة الصغار. وبدلاً من كشك للموسيقى تنظف الآذان وتنقى النفوس المتعبة المضللة قفز كشك الفتوى إلى رصيف المحطة. ومازال قصر الدعاء بالبركات والتسهيلات على المسلمين دون غيرهم الأشهر والأبرز والأزعق فى مكبرات الصوت حيث «اللهم فرج هم المهمومين وسائر المسلمين، وفرج كرب المكروبين وسائر المسلمين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، واحفظ زوجاتنا وسائر المسلمين، وأبناءنا وسائر أبناء المسلمين» إلخ. ومازالت أجواء التعليم رغم تنقيح بعض المناهج من الفوقية الدينية وبث معانى التكفير لكل من هو ليس مسلمًا ملبدة بأدمغة تربت على رفض الآخر ونبذه والاعتقاد بأن مجرد السماح له بالعيش إلى جواره إنما هو قمة الكرم والتسامح.
وقبل أن تغمرنا الفرحة العارمة بمباركة البابا فرانسيس بابا الفاتيكان مسار رحلة العائلة المقدسة إلى مصر واعتمادها ضمن رحلات الحج المسيحى علينا أن نسأل أنفسنا بصراحة شديدة جدًا: «هل نحن مؤهلون للتعامل مع السياحة الدينية المسيحية؟» وإذا كنت أضع يدى على قلبى من تعامل صبية التوك توك وأقرانهم الأكبر سنًا فى الميكروباصات والمرابطين ليلاً نهاراً على المقاهى والبصاصين والبصاصات فى شؤون الغير وغيرهم مع السياح والسائحات حال عودة حركة السياحة إلى مصر، فإننى أضع يدى على عينى حتى لا أتخيل المشهد فى التعامل مع السياحة الدينية طالما نكذب ولا نتجمل، ونترك الخطاب الدينى مشوهًا مهلهلاً ممسكًا بعوار العقود الماضية التى جعلت منا شعبًا متدينًا بالمظهر.
نقلا عن المصري اليوم