ربما كانت المرة الأولى التى تطأ فيها قدمى أرضاً لم تعتدها.. تلك الأيام التى سافرت فيها لأول مرة للعاصمة النمساوية فيينا.. المدينة الهادئة الجميلة التى تشعر أنها عاصمة للفن والجمال قبل كل شىء.. ربما قبل البشر أنفسهم.. الصورة كلها فى ذلك الوقت كانت توحى بأن الحياة فى تلك البلاد تختلف جذرياً عن تلك الحياة التى نعيشها فى هذا الوادى الطيب.. فكل شىء يدار بآلية لم أعتدها.. لا مجال للخطأ البشرى أو حتى للعاطفة.. المجتمع كله عملى أكثر من اللازم.. كان هدفى الأول وقتها -ككل من يسافر إلى الخارج- أن أبتاع هاتفاً محمولاً جديداً.. كنت أمتلك واحداً جيداً ابتعته من مصر.. ولكننى كنت أطمح أن أحمل أحدث ما أنتجه العالم فى ذلك الوقت.. ولكننى اكتشفت بعدها أن الأمر ليس بهذه السهولة أبداً.. لقد اكتشفت أن أسعار الهواتف المحمولة مرتفعة للغاية.. ربما أكثر بكثير من سعرها فى مصر.. كما أنها ليست منتشرة بالشكل الذى توقعته بالمقارنة بحجم انتشارها فى بلادنا فى ذلك الوقت.. فضلاً عن تلك القيود المعقدة للحصول على «خط» من الأساس..!
لقد أصابنى إحباط شديد.. وعجزت عن إيجاد تفسير مقنع لأن أجد سعر هاتفى الذى أحمله أغلى ربما أكثر من الضعف تقريباً عن سعره الذى ابتعته به.. حتى فسر لى صديق مصرى وقتها سبب ارتفاع أسعار الأجهزة بهذا الشكل.. لقد أخبرنى أن الحكومة تفرض ضرائب مرتفعة على كل ما هو ليس ضرورياً للشعب.. لذا فأسعار أجهزة المحمول تحديداً أعلى من سعرها الحقيقى بكثير.. وأعلى من السعر الذى يتم تسويقها به فى العالم كله.. وذلك السعر يختلف من بلد لآخر باختلاف قيمة الضرائب المفروضة عليها فى كل بلد من بلدان الاتحاد الأوروبى.. كما أن سعر الدقيقة نفسه ربما يفوق سعرها فى بلادنا خمسة أضعاف تقريباً.. وهو ما يجعل الناس ترشد من استخدامها للمحمول.. أو لا تستخدمه إلا للضرورة..! لقد انتهى الأمر أننى عدت دون أن أبتاع هاتفاً جديداً.. بل وأنا أشعر أن هاتفى قيم للغاية!!
لا أدرى لماذا تذكرت تلك القصة حين تابعت ذلك الجدل الدائر على مواقع التواصل الاجتماعى حول ارتفاع أسعار كروت الشحن الذى أعلنت عنه شركات المحمول فى بداية هذا الأسبوع.. فالكثيرون أعلنوا عن غضبهم واستنكارهم لذلك الارتفاع.. بل والبعض بدأ فى الدعوة لحملات مقاطعة لتلك الشركات.. ومقاطعة لاستخدام الهاتف المحمول للضغط عليهم ومنعهم من «استغلال المواطن البسيط»!! والواقع أن الأمر فى رأيى لا يحمل أى استغلال.. فذلك «المواطن البسيط» لا يفترض أن يحمل هاتفاً محمولاً من الأساس.. ولا ينبغى له أن يستخدمه -إن امتلكه- فى التحدث إلا للضرورة كما يحدث فى العالم كله!! المشكلة أننا -كالعادة- قد أفرطنا فى استخدام خدمة غير ضرورية حتى أصبحت من أساسيات حياتنا.. فحجم استخدام المحمول فى مصر وصل لأرقام غير مسبوقة بالمقارنة بمستوى الدخل.. أذكر أن عم «محمد» بواب عمارتنا يصر على الاتصال بصديقه بواب العمارة المجاورة بدلاً من أن يذهب إليه ليوفر مجهوده.. ودون أن تحمل المكالمة أى معلومة جديدة.. كل هذا وهو جالس أمام العمارة يدخن النارجيلة.. ويشكو ارتفاع تكاليف المعيشة ويلعن الغلاء لكل السكان!!
لا أعرف إن كانت زيادة الضرائب هى السبب الأساسى لارتفاع أسعار كروت الشحن أم أنه جشع من تلك الشركات.. إلا أننى أعتقد أن الأمر يدخل فى نطاق «العرض والطلب».. وأن الخدمة لا تدخل فى نطاق الخدمات الأساسية التى لا يمكن الاستغناء عنها.. لذا فلا حرج أن تزداد قيمتها أو تنخفض.. الفكرة أن نستخدمها متى نحتاجها.. وليس لأنها موجودة!!
إن معركة «كروت الهاتف المحمول» التى يطالب بها البعض لا تدخل فى اعتقادى تحت نطاق محاربة الجشع ومطالبات ضبط الأسواق.. وإنما هى معركة ضد التغيير السلوكى الذى ينبغى أن يحدث للمجتمع كله منذ زمن بعيد.. والضرورية.. لنصبح مجتمعاً سوياً!!
نقلا عن الوطن