أهم افرازات القضاء على دولة داعش، تكريس ظهور دولة الاكراد
ميشيل حنا حاج
الجمعة ٢٩ سبتمبر ٢٠١٧
المفكر والكاتب ميشيل حنا الحاج (يكتب من واشنطن دي سي)
من اهم افرازات بعث الاضطراب في سوريا بما سمي زورا وبهتانا بالثورة الشعبية السورية، ظهور داعش التي عرفت بالدولة الاسلامية. وبات الانشغال في السعي لتصفية الدولة الاسلامية، وما رافق ذلك من معارك وملابسات، سواء في العراق أو في سوريا، أن توفر المناخ الطبيعي لولادة الحاضنة الطبيعية لولادة الدولة الكردية، الأمر الذي أدركه أخيرا، وأخيرا فحسب، الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي تورط في مخطط بعض دول الخليج لاسقاط النظام القائم في سوريا، باعتبارها دولة متحالفة مع ايران، وممانعة للمخططات الاميركية الاسرائيلية الخليجية في ايجاد حل مقزم للقضية الفلسطينية يمهد لحرب ضد ايران. اذ كان من اهم الأسباب التي أدت لتنامي الاضطراب في سوريا، قيام الرئيس أردوغان بفتح حدوده أمام عبور المقاتلين والمال والسلاح بحرية تامة الى سوريا. وهذا أدى لتفاقم مفاعيل تلك الحرب، وتحولها الى حاضنة لتفريخ الارهاب، ولانتعاش آمال شعوب في المنطقة تتطلع نحو الانعتاق والتحرر من حكم الآخرين لها.
لكن الدور التركي كفاتح للحدود، والدور الخليجي كممول ومسلح للارهاب وللمقاتلين المرتزقة الذين تدفقوا على سوريا لاشعال تلك الفتنة، لم يكن السبب الوحيد وراء كل تلك التطورات الدموية والسياسية التي أدت لولادة الدولة الاسلامية، ومن ثم الشروع بتنفيذ الدولة الكردية. فالمخطط الأميركي السري (والمؤازر بحرارة من قبل اسرائيل) لتنفيذ الشرق الاوسط الجديد لكن بثوب جديد، يقف على أرض الواقع وراء كل هذه التطورات التي بدأت ولم تزل في مرحلة التفاعل والتنامي.
وقد يبدو الدفاع الأميركي بضراوة عن سنجار وكوباني واربيل، عندما تهددت كل منها من قبل الدولة الاسلامية، ومن ثم تأسيس جيش سوريا الدمقراطي ذو الغالبية الكردية، يشكلون معا المعيار المرجح والكافي لوجود مخطط حماية الاكراد تمهيدا لظهور دولتهم المستقلة. الا أن ذلك رغم صحته، ليس دقيقا تماما. فالتطور الأهم في هذا الاتجاه، تبلور في الأيام العشر الأولى من شهر حزيران (يونيو) 2014 ، عندما انطلقت من صحراء الأنبار، قوافل متلاحقة من السيارات التي تنقل المقاتلين والمدرعات وبعض أسلحة المدفعية، متجهة شمالا نحو محافظات العراق الكبرى الثلاث، وهي محافظات صلاح الدين (تكريت)، ومحافظة التأميم (كركوك)، ومحافظة نينوى (الموصل) . فهذا الموكب من المسلحين والمدفعية والسيارات المسلحة، قد توجه بأمان نحو المحافظات الثلاث، وسيطر عليها بسهولة ويسر دون مقاومة تذكر (نتيجة عنصر المفاجأة)، كما استولى على كافة أسلحة القوات العراقية المتواجدة في تلك المحافظات الثلاث، اضافة الى اجبار الكثيرين من أولئك الجنود على الانضمام الى صفوفها.
ففي تلك المرحلة من التاريخ، تأكدت الولادة الثانية للدولة الاسلامية، بعد أن كانت ولادتها الأولى في منتصف العام السابق (عام 2013)، عندما انشق أبو بكر البغدادي عن تنظيم القاعدة، بعد فك ارتباطه بجبهة النصرة التي يقودها أبو محمد الجولاني، بل ودخل في نزاعات ومعارك ضد الجولاني وضد جبهته المؤازرة من تنظيم القاعدة. ونجحت الولادة الثانية للدولة الاسلامية، لكونها قد حولت الدولة الاسلامية من مجرد واحدة من التنظيمات المقاتلة في سوريا، وباتت الآن تقاتل في العراق أيضا (في الأنبار مبدئيا) الى تنظيم قوي ومتميز بعد استيلائها على المحافظات الثلاث. فهي لم تعد بعدئذ مجرد تنظيم مسلح، اذ تطورت لتصبح جيشا قويا مسلحا لديه كل صفات وعناصر ومميزات الجيوش المنظمة. وكان السبب المباشر لتحول الدولة الاسلامية من مجرد تنظيم مسلح الى جيش كبير منظم، هو استيلاؤها على المحافظات العراقية الثلاث السابق ذكرها، والتي شكلت بمساحتها الواسعة، مساحة ثلثي الأراضي العراقية، اضافة الى سيطرة التنظيم على ألوية كبيرة وعديدة من الوية الجيش العراقي.
وهنا يتبلور الدور الأميركي في وجود أصابع أميركية واضحة وراء تأسيس وظهور الدولة الاسلامية سعيا وراء تحقيق هدف أبعد، وهو استخدامها كوسيلة لبلورة الدولة الكردية المستقلة في العراق، كخطوة نحو ظهور الدولة الكردية الكبرى باعتبارها الركن الأساسي في مشروع الشرق الاوسط الجديد لكن بثوب جديد. فاذا كان دورها في حض أبو بكر البغدادي على الانفصال عن جبهة النصرة، وبالتالي عن تنظيم القاعدة، دور غير واضح أو مؤكد، فان دورها في تبلور المرحلة الثانية والأكثر أهمية في حياة الدولة الاسلامية، والذي تمثل بالسيطرة على ثلاث محافظات بما تحتويه من أسلحة حديثة وقوات مسلحة، هو دور بارز واضح بل ومرجح، ولا يتقبل حتى تقييم مجرد احتمال بوجود شك صغير في صحته، وهو شك يفسر غالبا في القضاء لمصلحة المتهم.
فذاك الموكب العسكري الطويل الذي الذي سار على مدى 300 كيلومتر او أكثر، مرات ليلا وأخرى في وضح النهار، متجها نحو المحافظات العراقية الثلاث، لا يمكن بل يتعذر ان لم يكن يستحيل سيره طويلا دون ان تكتشفه الاقمار الصناعية الأميركية أو طائراتها الأواكس، او حتى طائراتها الاستكشافية العادية، اضافة الى الجواسيس الارضيين التابعين للسي ي ايه. ومع ذلك ترك الأميركيون الموكب يتابع خطاه نحو الشمال دون أي اعتراض، أو حتى مجرد ارسال تحذير للحكومة العراقية لتقوم بدورها بتحذير القوات العراقية المتواجدة في شمال البلاد، لتتخذ الحذر وتستعد للمقاومة، أو في حد أدنى لتسحب قواتها من المحافظات الثلاث المستهدفة، وذلك بتنفيذ عملية تشبه عملية "دنكرك" التي تمكنت فيها بريطانيا في بدايات الحرب العالمية الثانية، من انقاذ قواتها التي كان الالمان يحاولون استكمال عملية حصارهم وأسرهم بأعداد كبيرة.
والواقع أن عملية سيطرة داعش على شمال العراق، قد تكون النقطة السوداء البارزة المسجلة في سيرة الرئاسة الأوبامية، الذي أقر قوانين كثيرة وخاصة الصحية منها لمصلحة الضعاف في الشعب الأميركي، كما رفع الحظر عن كوبا، ووقع ضمن خمسة زائد واحد، الاتفاق النووي التوافقي مع ايران، وزار فيتنام، وحقق الكثير من المنجزات لمصلحة الشعب الاميركي والسلم العالمي بما فيها دخوله لأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة الحديث، في مواجهة علنية مع نتانياهو رئيس وزراء اسرائيل. لكنه أي أوباما، قد وجد نفسه مضطرا كما يبدو، لتنفيذ مخطط أسلافه من المحافظين الجدد في عهد الرئيس بوش الابن، الذين اعتمدوا مسبقا استراتيجة أميركية ثابتة هي استراتيجية الشرق الأوسط الجديد لكن بثوب جديد، بعد فشلهم في تطبيقه في ثوبه القديم، سواء في الحرب على العراق عام 1991 ، أو في غزوهم للعراق عام 2003، وهو الفشل الذي أدت اليه أمور عديدة ومنها اعتراضات دولية عارمة على تجزئة الدول الى دويلات صغيرة، دون استشارة أو استفتاء سكانها تنفيذا لحق الشعوب في تقرير مصيرها.
فالثوب الجديد للشرق الاوسط الجديد، لم يسع لتفكيك دول وتجزئتها كما سعت أميركا في الماضي، بل لتحرير شعوب من سيطرة شعوب أخرى عليها كالاكراد في الشرق الأوسط، أو الامازيغ والبربر في شمال افريقيا، الأمر الذي سيؤدي في نهاية المطاف وبشكل غير مباشر، الى اقتطاع أجزاء من دول هاتين المنطقتين تقام عليها دول لهذه الشعوب الساعية للانعتاق من حكم الآخرين لها.
ولعل من أهم النتائج التي ترتبت على سيطرة الدولة الاسلامية على المحافظات العراقية الشمالية الثلاث، هي سيطرتها على محافظة التأميم حيث توجد آبار النفط في كركوك، والتي سرعان ما تمكنت قوات البيشمركة الكردية، بقدرة قادر، من طرد قوات الدولة الاسلامية منها والسيطرة عليها، مهيمنة نتيجة ذلك على أهم موارد النفط في العراق، والذي سرعان ما بادر مسعود البرازاني لاعلانها (أي كركوك) في وقت لاحق، منطقة كردية وجزءا لا يتجزأ من كردستان العراق، مما شكل النواة الاقتصادية للدولة الكردية المنوي اعلان استقلالها في وقت لاحق.
ولعل تلك كانت... بالتآزر مع تصدي القوات ألأميركية سابقا للدفاع عن اربيل وحمايتها من السقوط في ايدي القوات الاسلامية، وما تبع ذلك من قيام الولايات المتحدة بالحيلولة دون سقوط كوباني الكردية في ايدي داعش التي حاصرتها...والأمر ذاته بالنسبلة للدفاع عن جبل سنجار شبه الكردي بساكنيه... هذا كله شكل المعالم الأولى على دخول عملية تشكيل الدولة الكردية مرحلتها الثالثة، التي سرعان ما تبعتها المرحلة الرابعة بتشكيل جيش سوريا الدمقراطي المكون في غالبيته من الاكراد، بل ودخول الولايات المتحدة مرحلة العلنية والمباشرة في دعمها للأكراد، وذلك بتسليحها وتمويلها وتدريبها جيش سوريا الدمقراطي، بل وارسال خبراء عسكريين للتخطيط والاشراف، بل والمشاركة في تنفيذ عمليات جيش سوريا الدمقراطي، اضافة لانشاء مطارات وقواعد عسكرية أميركية في الشمال السوري، والذي سرعان ما توسعت عملياته القتالية، فلم تعد تكتفي بالقتال لتحرير جرابلس ومنبج وبعض قرى ومدن الشمال السوري ذو الاغلبية الكردية في بعض اجزائه، اذ توسعت عملياته لتشمل السعي لتحرير الرقة ومن ثم دير الزور وغيرها من المناطق السورية، مما أفرز في نهاية الأمر التخطيط لاستفتاء يجرى في تلك المناطق السورية، ومضمونه اعلان تلك المناطق السورية مناطق حكم ذاتي للأكراد، وهو الاستفتاء المتقارب في تاريخه مع استفتاء كردستان العراق على اعلان استقلال الاقليم الكردي العراقي دولة مستقلة، منهية مرحلة الحكم الذاتي في العراق والوصول الى مرحلة الدولة المستقلة، كما يتوقع أن يصل الاستفتاء المزمع اجراؤه قريبا في سوريا، الى مرحلة الاستقلال التام لاحقا بعد لأي واثر مرحلة قصيرة من الحكم الذاتي كما بتوقع ويخطط سرا أكراد سوريا.
ولم يكن هناك بوسع الدولتين السورية والعراقية، أن تفعلا شيئا جديا لوقف سير زحف الأكراد في سوريا وفي العراق... نحو الاستقلال. فكل منهما في تلك المرحلة، كانت مشغولة بالعمليات القتالية التي تخوضها ضد الدولة الاسلامية، سواء في سوريا (في حلب وشمال سوريا والرقة ودير الزور) أو في العراق، في عدة مناطق أبرزها الموصل التي استغرقت عملية تحريرها طويلا، حائلة دون تصدي الدولة العراقية للمخططات الكردية الساعية للاستقلال.
وهنا يتجلى دور الدولة الاسلامية في تهيئة المناخ لتنفيذ المخطط الاميركي الساعي لتحقيق شرق أوسط جديد لكن بثوب جديد... حاك خيوطه مصمم أـزياء أميركي بارع عمل لعدة سنوات على تصميمه، بدءا باشعال الاضطراب في سوريا، ومن ثم بظهور الدولة الاسلامية وما تلاها من معارك مع عناصر تلك الدولة المزعومة والتي شكلت فرصة ملائمة لمشاغلة الدولتين السورية والعراقية عن الهم الكردي الآخذ في التنامي والتبلور والازدهار.
والواقع انه لا يحق لاحد الاعتراض على سعي الاكراد للاستقلال. فحق تقرير المصير هو حق مقرر لكل شعوب الارض. والاحتجاج الحقيقي ينصب فحسب على النهج الخاطىء المستخدم في السعي للاستقلال من خلال الاستعانة بالاجنبي الأميركي لتحقيق هذا الاستقلال، اضافة الى التعاون الذي بات مكشوفا مع اسرائيل، عدو العرب وكل سكان المنطقة. وكان الأفضل الدخول في مفاوضات سلمية هادئة مع الحكومات السائدة في تلك المنطقة، علما أن الناحية القومية والاثنية، ليست سببا كافيا للانفصال والاستقلال.
وهناك سويسرا كمثل واضح على صحة هذا الطرح. اذ يعيش في سويسرا أربع قوميات مختلفة تعيش جميعها في دولة واحدة. وهذه القوميات هي الالمانية والفرنسية والايطالية والرومانية. كما أن الأكراد قد لعبوا دورا هاما في البلاد العربية وخصوصا في مرحلة الحروب الصليبية التي قادها ضد الغزاة الصليبيين، البطل صلاح الدين الايوبي الذي كان كرديا. وعددت قناة القاهرة والناس المصرية، اسماء سبع شخصيات بارزة لعبت دورا هاما في مصر علما انهم جميعا من أصل كردي. وأبرز تلك الشخصيات كان قاسم أمين، ـأول الدعاة لتحرير المرأة ، كذلك أحمد شوقي...أمير الشعراء، وعباس محمود العقاد صاحب كتب العبقريات، ثم الدكتورة سهير القلماوي، والشيخ القارىء عبد الباسط عبد الصمد، وكذلك الفنانة سعاد حسني، فهؤلاء جميعا قد انحدروا من أصل كردي، ومع ذلك فقد عاشوا وتعايشوا بل وازدهروا وتألقوا في ظلال العالم العربي..
فالسعي للاستقلال المقرر كحق للأكراد، لم يكن قضية ملحة أو مستعجلة، اذ كان بوسعها الانتظار بعض الوقت لحين اكتمال التعامل مع مسألة الدولة الاسلامية التي كانت خطرا حالا وملحا، ليس فحسب على دول الجوار العربية، بل أحيانا على الأكراد أيضا، بدليل معركة كوباني وكركوك وجبل سنجار وغيرها من المعارك. ولكن أكراد العراق واكراد سوريا أيضا، وجدوا الفرصة الملائمة بتبلور خطر ملح يشاغل دول المنطقة بغزارة وهو خطر الدولة الاسلامية، ليستثمروه في حث مساعيهم نحو الاسئقلال. فكل الطرق اذن تؤدي الى روما، مما قد يرجح مرة أخرى أن خطر الدولة الاسلامية ربما تعمد الأميركيون ايجاده (الى جانب خطر الهجمة الرجعية على سوريا)، بهدف التمهيد لتنفيذ مشروعهم الخاص ببلورة الدولة الكردية كخطوة نحو شرق أوسط جديد بثوب جديد.
فخيوط العنكبوت اذن التي حاكت شبكة الدولة الاسلامية، باتت الآن واضحة وضوح الشمس، بدءا بانسلاخ البغدادي عن القاعدة وجبهة النصرة ، والذي ما كان سينجح أصلا لو لم يتبعه في تموز (يوليو) 2013، الهجوم الذي تحقق فجأة على سجن أبو غريب وأفرز اطلاق سراح 500 الى الف سجين كلهم باتوا أعضاء مقاتلين في الدولة الاسلامية ، مما ساعد على انتشار داعش في العراق، ومن ثم التوجه لاحقا نحو الشمال للسيطرة على المحافظات العراقية الثلاث. اذ بات من الواضح تدريجيا، وجود خيوط للعنكبوت تشابكت معا لتشكل معا مؤامرة ظهور الدولة الاسلامية باعتبارها خطوة ضرورية لا بد منها لتحقيق الشرق الأوسط الجديد بثوبه الجديد المزدهر والمتألق، والذي أعمى عيون البعض فتعذر عليهم رؤية حقيقة ما حدث ويحدث في المنطقة، بسبب انشغال بعض حكامها بالرغبة العارمة في مقاتلة ايران التي صنفت كخطر حال وملح، رغم وجود أخطار أخرى أكثر الحاحا وخطورة، وأخذت آثارها تتجلى بوضوح أمام عيون المراقبين غير المخدرين بالخطر الايراني المزعوم...في الوقت الحاضر على الأقل.
الملقب بالاعلامي العربي الأول والمميز لعام 2017 ... من قبل لجنة اتحاد الاعلاميين العرب.
المستشار في المركز الدولي لمكافحة الارهاب – برلين.