الأقباط متحدون - من قطار الرحمة للضياع في الزحمة
  • ١١:٥٥
  • الثلاثاء , ٢٦ سبتمبر ٢٠١٧
English version

من قطار الرحمة للضياع في الزحمة

فاروق عطية

مساحة رأي

٢١: ١١ ص +02:00 EET

الثلاثاء ٢٦ سبتمبر ٢٠١٧

تعبيرية
تعبيرية
فاروق عطية
   بمناسبة رحلة فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي إلي نيويورك لحضور اجتماعات الجمعية العامة لأمم المتحدة، وسفر الأنبا أرميا قبله بأيام للضغط علي الكنائس القبطية الأرثوذكسية لحشد أقباط المهجر المسيحيين لاستقبال فخامته. تذكرت أول رئيس للجمهورية ومدي حب الناس له دون ضغوط، وأعادني ذلك لأيامنا الخوالي طالبا بالمرجلة الثانوية بمدينة طهطا إحدي مدن مديرية جرجا (محافظة سوهاج الآن) بالوجه القبلي.
 
   في العام الدراسي 53/1954 كنت بالفصل الدراسي الثالثة أول الثانوي. وما أكثر أحداث هذا العام، وما أكثر ما حدث لنا في هذه السن المبكرة من تقلبات وتغيرات في المفاهيم، أكبر كثيرا من قدرتنا علي الاستيعاب والتقبل. خلال الإجازة الصيفية، في 18 يونيو 1953 أُعلن رسميًا عن إلغاء الملكية وقيام النظام الجمهوري في مصر. تولي اللواء محمد نجيب رياسة الجمهورية بالإضافة لرياسة مجلس الوزراء، وتولي البكباشي جمال عيد الناصر منصب نائب الرئيس ووزارة الداخلية. وتولي صلاح سالم وزارة الإرشاد وشؤون السودان، وتولي عبد اللطيب بغدادي وزارة الحربية، وعُين عبد الحكيم عامر قائدا عاما للقوات المسلحة، وإسماعيل القباني وزيرا للمعارف العمومية "كان معظم الوزراء من المدنيين".
 
   في يناير 1954 فكّر نجيب في جمع تبرعات لتسليح الجيش المصري، والتقت فكرته مع فناني مصر في الزمن الجميل وانبثق عن ذلك انطلاق قطار الرحمة الذي يقلّ فناني مصر المحبوبين وبعض قيادات الثورة ليجوب ربوع مصر لجمع التبرعات. أذكر أنه في أحد أيام شهر يناير قرابة الثانية بعد الظهر أقبل قطار الرحمة لمحطة طهطا وكان علينا نحن أفراد الفرقة العسكرية التي يدربها ضابط الاحتياط مدرس الأحياء الأستاذ إبراهيم وصفي، بعمل كوردون علي رصيف المحطة لحفظ النظام، وكنت علي قمة الطابور بصفتي جاويش الفرقة، وحين أقبل القطار كان من حسن حظي أن تقف العربة التي يستقلها اللواء محمد نجيب أمامي مباشرة، فابتسم وحييته التحية العسكرية فربت علي كتفي وتبادل معي بعض عبارات الامتنان والتقدير.
 
   في أحد أيام شهر فبراير إثناء خروجنا من الفصول للفسحة الصغيرة (15 دقيقة) بين الحصة الثانية والحصةالثالثة، شاهدت رجلا هزيلا يرتدي بنطلون أسود وجاكت كاكي وعلي رأسه طربوشا تحته منديل محلاوي والدم يغطي وجنتيه يدخل من باب المدرسة الأمامي فقابله حضرة الناظر عارف بك عسكر (الذي ألغيت بكويته مع الثورة)، وسأله عما يريد، فأجاب أنه يريد استخدام تليفون المدرسة للاتصال بالقيادة ليخبر ابنه جمال عبد الناصر بما حدث له من تعدي، فنهره حضرة الناظر وطرده خارج المدرسة لاعنا أباه وأبو جمال معا، قائلا له أن تليفون المدرسة ليس تليفونا عاما لاستخدام كل من هب ودب. وبعد انتهاء اليوم الدراسي علمت من أحد الزملاء أبوه ناظر محطة أتوبيس الصعيد إسمه محمد عبد التواب كان علي خلاف مع صاحب شركة أتوبيس الصعيد أبو الوفا دنقل، وحكمت المحكمة له بمبلغ مالي كبير علي سبيل التعويض. فلجأ أبو الوفا دنقل إلي عبد الناصر حسين (والد جمال) ووعده بأن يكون شريكا له في الشركة، إذا استطاع التوسط بينه وبين محمد عبد التواب وحلّ الخلاف الذي بينهما. وعندما توجه عبد الناصر معه إلي محطة الأوتوبيس محاولا التدخل ثار عليهما ناظر المحطة ضاربا بمفتاح فرنساوي كبير كان علي مكتبه كليهما، فأصاب عبد الناصر بجرح في جبهته. توقعنا بعدها أن يستغلّ جمال سلطته في إجراء عمليات انتقامية، ولكن تم التكتيم علي الأمر ولم يذكره أحد بعدها.
 
   كما حدث خلاف بين هوبير وروبيسبير ومارا قادة الثورة الفرنسية، حدث المثل فيما أطلق عليه الثورة المصرية بالرغم أنها لم يقم بها الشعب كالثورة الفرنسية، بدأ الخلاف يدب بين ضباطها، كل يطمع في القيادة. نتيجة لتلك الخلافات المستعصية قدم محمد نجيب استقالته في 22 فبراير. وفي 25 فبراير أصدر مجلس القيادة بيان أقالة محمد نجيب، وأدعى البيان أن محمد نجيب طلب سلطات أكبر من سلطات أعضاء المجلس وأن يكون له حق الاعتراض علي قراراته حتي ولو كانت هذه القرارات قد أخذت بالإجماع. لكن بعد إذاعة بيان إقالته على الملأ خرجت الجماهير تحتج عليه وانهالت البرقيات علي المجلس ودور الصحف ترفض الاستقالة. واندلعت احتجاجان ومظاهرات تلقائية في القاهرة والأقاليم لمدة ثلاثة أيام تؤيد نجيب وكانت الجماهير تهتف (محمد نجيب أو الثورة) وفي السودان اندلعت مظاهرات جارفة تهتف (لا وحدة بلا نجيب)، وانقسم الجيش بين مؤيد لعودة محمد نجيب وإقرار الحياة النيابية وبين المناصرين لمجلس قيادة الثورة.
 
   ولم نكن نحن في مدينتنا البعيدة عن العاصمة بمعزل عن تلك الأحداث، خرجنا كطلاب وخرج معنا التجار والعمال نهتف لنجيب حبيب الملايين وسقوط عبد الناصر عدو الديموقراطية. صدرت الأوامر لبوليس المركز، بتفريق المظاهرة حتي بضرب النار إذا لزم الأمر. ولما كان أبناء المأمور وضباط البوليس وعساكره معنا في المظاهرة، رأي المأمور أن تستخدم الخيالة الكرابيج لتفريق المتظاهرين، وما زالت علامة الكرباج ماثلة علي ظهري حتي الآن، وكانت المرة الأخيرة أن تري مدينتنا مظاهرات حتي وفاة عبد الناصر.
 
  كانت هذه التظاهرات علي مستوي وادي النيل، حتي أشرفت البلاد علي حرب أهلية، وتداركا للموقف أصدر مجلس القيادة بيانا مساء 27 فبراير جاء فيه «حفاظا علي وحدة الأمة يعلن مجلس قيادة الثورة عودة محمد نجيب رئيسا للجمهورية وقد وافق سيادته علي ذلك»، وعاد محمد نجيب مجدداً إلى منصبه كرئيس للجمهورية. فورعودته إلي الحكم بدأ مشاوراته مع مجلس القيادة للتعجيل بعودة الحياة النيابية، وفي ليلة 5 مارس صدرت قرارات ركزت على ضرورة عقد جمعية لمناقشة الدستور الجديد وإقراره، وإلغاء الأحكام العرفية والرقابة على الصحف والإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين، وهنا أدرك الفريق المعادي لمحمد نجيب أن كل الخطط التي أعدت للإطاحة به مهددة بالفشل، فبدأ يدبر مخططات أخرى من شأنها الالتفاف على قرارات 5 مارس والعودة للحكم الفردي.
 
  في 25 مارس اجتمع مجلس قيادة الثورة كاملا وانتهى الاجتماع إلي إصدار القرارات التالية: السماح بقيام الأحزاب، مجلس قيادة الثورة لا يؤلف حزبا، لا حرمان من الحقوق السياسية حتى لا يكون هناك تأثير علي الانتخابات، تنتخب الجمعية التأسيسية انتخابا حرا مباشرا بدون تعيين أي فرد وتكون لها سلطات البرلمان كاملة والانتخابات حرة، حل مجلس الثورة في 24 يوليو المقبل باعتبار أن الثورة قد انتهت وتسلم البلاد لممثلي الأمة، تنتخب الجمعية التأسيسية رئيس الجمهورية بمجرد انعقادها.
 
   هذا الاحتماع وتلك القرارات أثارت حفيظة مجلس قيادة الثورة الذي كان يعمل علي تكريس حكم الفرد وإلغاء الأحزاب وفرض الرقابة علي الصحف. وبدأ في تخويف الشعب من تلك القرارات عن طريق الصحف التابعة والإشاعات التي روجوها بأن البلاد ستعود لما كانت عليه قبل الثورة. وتلفيق تهم كاذبة عن محمد نجيب كوجود اتصالات بينه وبين حزب الوفد والإخوان المسلمين.
 
 وفي 28 مارس خرجت في القاهرة أغرب مظاهرة في التاريخ كان شعارها لآ أحزاب ولا برلمان، تسقط الديموقراطية وتسقط الحرية. دارت هذه المظاهرات حول البرلمان والقصر الجمهوري ومجلس الدولة، وكررت هتافاتها ومنها «لا أحزاب ولا برلمان»، ووصلت الخطة السوداء ذروتها، عندما اشترت مجموعة عبد الناصر، صاوي أحمد صاوي رئيس اتحاد عمال النقل ودفعوهم إلى عمل إضراب يشل الحياة وحركة المواصلات، وشاركهم فيها عدد كبير من النقابات العمالية وخرج المتظاهرون يهتفون "تسقط الديمقراطية تسقط الحرية" ، وقد اعترف الصاوي آنفا بأنه حصل علي مبلغ 4 آلاف جنبه مقابل تدبير هذه المظاهرات. ربح أعضاء مجلس قيادة الثورة المعركة ضد محمد نجيب وصدرت قرارات جديدة تلغي قرارات 25 مارس.
   انهزم محمد نجيب في في معركة مارس، والواقع أنها لم تكن خسارته وحده ولكنها كانت خسارة لمسيرة الديموقراطية بمصر والسودان معا. أصر نجيب على الاستقالة لكن عبد الناصر عارض بشدة استقالة نجيب خشية أن تندلع مظاهرات مثلما حدث في فبراير. ووافق محمد نجيب علي الاستمرار إنقاذا للبلاد من حرب أهية ومحاولة إتمام الوحدة بين مصر والسودان. 

 

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع