الأقباط متحدون - الزمن النظيف فوق الشجرة
  • ٠٠:٣٣
  • الاثنين , ٢٥ سبتمبر ٢٠١٧
English version

الزمن النظيف فوق الشجرة

مقالات مختارة | فاطمة ناعوت

٥٤: ٠٨ ص +02:00 EET

الاثنين ٢٥ سبتمبر ٢٠١٧

فاطمة ناعوت
فاطمة ناعوت

«…. الزمن النضيف يا أستاذة، مش الزمن الجميل!» هكذا قالت لى الصبيّةُ الجميلة «ميّ»، خريجة مدارس الليسيه، ونحن نشاهد معًا فيلم «أبى فوق الشجرة». وكان لهذه الجملة حكاية.

المكان: صالون بيتى العامر بالحب والجمال والرحمة حتى على عصافير السماء. الزمان: الأسبوع الماضى، فى حفل عيد ميلادى. الأشخاص: أفراد أسرتى والأصدقاء، واثنين من فريق عملى: مصطفى ناصر، ميّ السكّرى. الحكاية: كنتُ أحكى للحضور، بمناسبة عيد ميلادى السعيد، بعض الذكريات الطريفة من طفولتى. وكيف أننى كنتُ طفلةً عنيدة، ربما… متمردة، بالتأكيد... «لمضة»، دون شك... «شاطرة» فى المدرسة، صحيح… أفكارى تسبق عمرى، غالبًا. لكننى رغم كل ما سبق، كنتُ، مثل معظم أبناء جيلى، طفلة بريئة، لئلا أقول: ساذجة. يعنى من السهل جدًّا أن «يضحك علينا» أمهاتنا وآباؤنا، على عكس أطفال اليوم الذين أضحوا يفهمون كل شيء ومن العسير خداعهم. وكان من بين ما حكيتُ لهم من ذكريات، حكايتى مع فيلم «أبى فوق الشجرة»، الذى قررّ أبى وأمى مشاهدته، وبكيتُ لأمى وتوسّلتُ حتى وافقت على أن أذهب معهما إلى السينما. وما الخوف من فيلم للكبار، على طفلة فى الرابعة لا تعى شيئًا، ولابد ستنام بعد فقرة كارتون «ميكى ماوس»، التى كانت دائمًا تُعرض فى السينمات قبل الأفلام! وهذا ما حدث. استغرقتُ فى النوم بعد والت ديزنى مباشرة. لكننى كنتُ أصحو من النوم منتفضةً بين الحين والحين لأسأل لأمى: «ماما عمو طلع فوق الشجرة واللا لسه؟» تُجيب أمى: «لسه… نامى يا حبيبتى. لما يطلع فوق الشجرة هاصحيكى عشان تشوفيه». وطبعًا صدّقتُ وعد أمى بأن توقظنى حين يطلع «عمو» على الشجرة ليكلّم العصافير. لم يكن وعيى قد نضج لأفهم المجازَ الأدبيَّ الذى اختاره «إحسان عبدالقدوس» فى عنوان الفيلم. كل ما كان يعنينى هو مشهد رجل يشبه أبى، وهو يصعد فوق الشجرة ليلعب مع العصافير ويساعدها فى بناء أعشاشها، أو ربما يغنى معها ويصدح، حتى تعلّمه العصافيرُ الطيرانَ، مثلما كنتُ أحلم بتعلّم الطيران. لا أظن أن أطفال اليوم يفكرون على هذا النحو الساذج الذى كنتُ عليه وأنا فى الرابعة من عمرى. طلبت «ميّ» أن تشاهد هذا الفيلم الذى لم تره من قبل. فجلبته على الشاشة وبدأنا المشاهدة. فأبدت اندهاشها من زرقة البحر الرائق والرمال النظيفة والشماسى الملوّنة الجميلة، حيث البنات يرتدين فساتين قصيرة وأنيقة، يلعبن الراكيت والحصان والكرة ويغنين ويرقصن فى طفولة وعذوبة دون أن يضايقهن أحدٌ. فقلتُ لها: “كان زمن جميل يا ميّ.” فقالت الصبيةُ: “كان زمن نضيف يا أستاذة. مش بس الشوارع كانت نضيفة. كمان عقول الناس كانت نضيفة”. فوافقتُها تمام الموافقة. واستأذنتها أن أقتبس منها هذه العبارة «الزمن النظيف» فى مقال؛ لأنه التعبير الأدق ليصف تلك الحقبة الراقية من تاريخ مصر، قبل زمن القمامة والبلاجات المتسخّة والتحرش والمعجم المبتذل والمبانى القبيحة والملابس غير المتناسقة.

صحيح أننى لم ألحق من ذلك الزمن سوى سنوات قليلة كنتُ فيها طفلة لا تعى الكثير، وأمضيتُ صباى وشبابى فى الزمن «النصف نظيف»، لكن جيل ميّ ومصطفى وابنى مازن، لم يروا أصلا ذاك الزمان، اللهم إلا فى الأفلام «الأبيض والأسود» التى صاروا يشاهدونها كما يشاهدون الأفلام الغربية التى تنتمى لمجتمعات غريبة وأزمنة غريبة، لا تمتُّ لعصرنا ولا لبلادنا بأى صلة. فى ذلك الزمن النظيف، كانت أمى تخرج بالكعب العالى والملابس الأوروبية الأنيقة، وتضع الفرير حول كتفيها، دون أن تتفرّس العيونُ الجائعةُ فى جسدها، ودون أن ترميها الألسنُ البذيئة بخادش القول، ودون أن يخشى عليها أبوها أو زوجها أو شقيقها من تحرّش أو اغتصاب أو بذاءة. كانت كعوب الأحذية عالية ورفيعة لا تنكسرُ فى الطرقات، لأن الطرقات مستوية. وكانت الأحذية البيضاء الأنيقة لا تتلوث فى الشوارع، لأن الشوارع نظيفة. وكانت الأرواحُ لا تتصدع ولا العيونُ تشمئز ولا الآذانُ تنفرُ لأن المجتمع كان نظيف الروح والعقل والبدن.

أعرف أن معظم من يقرأون مقالى الآن، سواء كانوا من جيلى أو من جيل أحدث أو أقدم، يفرّون من لحظتنا الحالية إلى الماضى النظيف عبر تلك الأفلام القديمة. نبحث عن جمالنا المغدور فى وجوه جداتنا وأمهاتنا وأجدادنا وآبائنا. نبحث عن أناقة مصر المسروقة، فى أناقتها القديمة ونظافتها الغابرة التى قتلها الزمانُ. لا، الزمانُ لا يقتلُ جمال البلدان بل يزيدها حسنًا وعراقة إن شاء ذلك أبناءُ تلك البلدان. إنما نحن من قتل جمال مصر القديم، وأوغل فى إزهاق روح نظافتها، حتى غدونا الآن نقولها مع زفرة حسرة ووجع: «آآآآه! كان زمن جميل! كان زمن نضيف!» الزمنُ الذى طلع فوق الشجرة، ولم يعد.
نقلا عن المصري اليوم

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع