زميلى القديم والخصوصية الثقافية
مقالات مختارة | نوال السعداوي
الاثنين ٢٥ سبتمبر ٢٠١٧
كان زميلا لى بجامعة كولومبيا بمدينة نيويورك، فى منتصف الستينيات من القرن الماضى، يواصل دراسته العليا فى الاقتصاد، وكنت أواصل دراستى العليا فى الطب، ترك زوجته حاملا مع أمها فى مصر، بأمل العودة بعد إتمام دراسته، لكنه التقى بامرأة أمريكية ساعدته فى الحصول على الدكتوراه ووظيفة بالجامعة، نسى زوجته وابنه، تزوج الأمريكية وعاش معها أربع سنوات أنجبا ولدين، ثم عاد بأسرته الجديدة إلى مصر ليصبح أستاذا بالجامعة، كانت ورقة الطلاق قد وصلت زوجته بالبريد بعد زواجه بالأمريكية ، أصابتها صدمة أرقدتها الفراش، فشلت فى استرداد وظيفتها، مصدر رزقها الوحيد، التى استقالت منها، تحت ضغط زوجها للتفرغ لأعمال البيت والأسرة، داهمتها الأمراض النفسية والجسمية مع المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التى تواجهها المطلقات الفقيرات، لم تجد أجر المحامين لتنتزع حقوقها من أنياب المحاكم وسراديب القوانين، ثم ماتت تنزف الألم مع الدم، تولت أمها رعاية الابن اليتيم، لم يأخذ إلا الاسم من أبيه، الأستاذ الجامعى المرموق، الذى ينال الاحترام من الجميع وجوائز الدولة التقديرية، فالمجتمع المصرى حسب العادات والتقاليد لا يحاسب الرجل على سوء سلوكه فى أسرته، تنفصل حياة الرجل الخاصة عن حياته العامة، لا توجد مسؤولية أخلاقية للرجل فى القانون والتقاليد والعادات، تجاه زوجته وأطفاله، فالرجل له الحرية المطلقة فى حياته الخاصة، الاعتراف بطفله أو إنكاره، تعدد الزوجات حسب هواه، تطليق زوجاته شفهيا أو تحريريا، وتشريد أطفاله، لهذا دأبت النخب من الرجال المصريين، رغم اختلافاتهم السياسية والاقتصادية والحزبية، على المطالبة بالحفاظ على التقاليد والعادات، تحت اسم الحفاظ على الهوية أو الخصوصية الثقافية،
كان زميلى القديم من الاشتراكيين وأحد أقطاب القطاع العام ، ومع تغير الحاكم، أصبح من أكبر رجال القطاع الخاص والسوق الحرة، ومع تصاعد القوى الدينية أصبح كاتبا ومفكرا إسلاميا، يكتب عن التنمية وتحرير الاقتصاد على النمط الرأسمالى الغربى، بشرط الحفاظ على العادات والتقاليد، ومنها حجاب المرأة، زوجته الأمريكية ارتدت الحجاب كنموذج للمرأة المسلمة الفاضلة، ونشرت كتابا بالإنجليزية بعنوان «التحرير النسوى الإسلامى» تمت ترجمته للعربية، وأصبح مرجعا للنخب المصرية، يستشهدون به فى حديثهم عن تحرير المرأة المصرية ، ويتهمون الكاتبات المصريات، الناقدات للحجاب (والختان وتعدد الزوجات) بعدم احترام الخصوصية الثقافية، والدعوة للتنمية على النمط الغربى، ما سمى بالتغريب.
وكانت الأحوال السياسية الاقتصادية تتحول بسرعة نحو الاستهلاك والمعونات الخارجية، وتم ضرب الإنتاج المصرى، (قطن، قمح، منسوجات، أحذية، أغذية، مشروبات بما فيها ماء الشرب) وغرقت الأسواق المصرية فى السلع المستوردة لصالح الشركات الأجنبية ووكلائها من المصريين، وما صاحب ذلك من تبعية سياسية واقتصادية وعسكرية، وما يرتبط بها من تبعية فى المجالات الأخرى، الاجتماعية والتنموية والتعليمية.
وانتشرت النساء المحجبات، والرجال بالجلابيب واللحى، ومحلات ماكدولاند تفوح منها الهامبرجر، والجوامع والمنارات تزعق فوقها الميكروفونات بالأذان والتكبيرات، وفى الليل يزعق الديسكو بالرقص والأغانى الأمريكية والطبل البلدى، وراح زميلى القديم ينشر المقالات عن الهوية الأصلية والخصوصية الثقافية، ولمحته يوما يمشى مرتديا عباءة وبين أصابعه مسبحة صفراء ومن خلفه زوجته الأمريكية وقد لفت رأسها بحجاب، ونشرت بالإنجليزية مقالا عن الحجاب والختان كجزء من هوية المرأة المصرية الأصلية، وسألتها عن هويتها الأصلية، قالت أنا مصرية تبع زوجى، وكتب زوجها مقالا يندد بالنساء المصريات اللائى يرغبن فى التحرير على النمط الغربى، وكتب أيضا يشيد يالتعليم الأصلى فى كتاتيب القرية، حيث يدرس الأطفال ألفية ابن مالك، ويحفظون القرآن لتعلم اللغة العربية السليمة والحفاظ على الخصوصية والهوية، بينما هو يرسل أولاده إلى الجامعة فى نيويورك.
وقال لى، يجب أن تتقدم مصر اقتصاديا لكن ليس من المفيد أن نفقد حضارتنا وتراثنا يا دكتورة، وأشرت إلى حجاب زوجته الأمريكية وقلت هل هذا من تراثنا وحضارتنا المصرية يا دكتور؟ قالت زوجته بلكنة أمريكية أيوه، قلت: لا يا سيدتى، الحجاب لا علاقة له بحضارتنا المصرية، لم تكن الإلهة إيزيس ترتدى الحجاب ولا أختها معات رئيسة القضاة، ولا الملكة نفرتيتى، يجب أن نحافظ على الإيجابيات من تراثنا المصرى، والتراث فى كل البلاد يحتوى السلبيات والإيجابيات.
وامتلك زميلى القديم وزوجته الأمريكية قصرا فى القاهرة الجديدة وعزبة فى القرية ومنتجعا على ساحل البحر، وأولاده وبناته حصلوا على مناصب عليا، ومؤسسات وشركات هامة، وأحفاده وحفيداته بالجامعة فى نيويورك يتعلمون، لا فى كتاتيب القرية، وأصبح من أعداء الإخوان المسلمين بعد سقوطهم، وكتب ضد الحجاب وضد ختان الإناث أيضا، بعد تجريمه قانونا، إلا أنه يدافع عن ختان الذكور، ويعتبره من إيجابيات التراث ومفيد صحيا، وراح يجادلنى كأنه أستاذ قى الطب، وكانت زوجته الأمريكية قد خلعت الحجاب وبدأت تبحث فى التراث المصرى القديم عن موضوع لكتابها الجديد.
فصل الخطاب
لم تكن الإلهة إيزيس ترتدى الحجاب ولا أختها معات رئيسة القضاة، ولا الملكة نفرتيتى، يجب أن نحافظ على الإيجابيات من تراثنا المصرى.
نقلا عن المصري اليوم