الأقباط متحدون - حقائق مخفية عن الحرب البوسنة
  • ٢١:٢٤
  • السبت , ١٦ سبتمبر ٢٠١٧
English version

حقائق مخفية عن الحرب البوسنة

فاروق عطية

مساحة رأي

٣٠: ٠٩ ص +02:00 EET

السبت ١٦ سبتمبر ٢٠١٧

الحرب البوسنة
الحرب البوسنة

فاروق عطية
   ذكرت في المقال الأول من هذه السلسلة: من مارس 1992 حتى نوفمبر 1995 كانت هناك حرب طاحنة تجري في يوجوسلافيا ومسرحها بقعة صغيرة لا تكاد تري علي خارطة العالم هي البوسنة والهرسك. أتذكر في تلك الفترة كانت وسائل الميديا المصرية تطنطن بأنها حرب دينية بين مسيحي الصرب الأرثوذكس ومسلمي البوسنة، وتحاول بطريقة مستترة أن تحرض علي فتنة طائفية للتنكيل بأقباط مصر لأن أغلبيتهم أرثوذكس أخذا بالثأر لما يحدث في البوسنة رغم أنه لا توجد أي رابطة دينية بين الأرثوذكس البوسنيين أو الصربيين وبين الأرثوذكس المصريين. أردت أن أعرف كيف ومتي بدأت العداوة، والسبب الحقيقي للحرب، أردت أن أعرف الموقف الآن بعد حوالي 25 سنة من نهاية الحرب هل عاد الوئام والحب كما كان خاصة بين الأجيال الجديدة ؟ منذ تلك الأيام وأنا أحلم بالذهاب لتلك المنطقة واستجلاء الحقيقة، ولكن لم يكن لدي الوقت المناسب لانشغالي بمهامي الوظيفية. جاءتني الفرصة لزيارة إكس يوجوسلافيا خاصة الصرب والبوسنة مع أصدقائي الذين رحّبوا باستضافتي معهم، وجدتها فرصة سانحة لا تعوض لأسأل وأتقصي وأحاول أن أفهم.

   وقد كان، ذهبت لموقع الأحداث لمدة شهر كامل (من أول يونيو حتي آخره) إنتقلت من مدينة لأخري وتحدثت مع العديد من الناس، من حضروا واكتووا بنار الحرب، بوسنيون صرب (أرثوذكس)، أو بوسنيون كروات (كاثوليك) أو بوشناق (مسلمون)، تحاورنا وللحقيقة جميعهم تحدث معي بصراحة تامة جعلتني أوقن أن الحرب لم تك أبدا حربا دينية بل هي حرب سياسية 100% استُغِل الدين فيها أسوأ استغلال. وقبل الدخول إلي لب الموضوع هناك بعض الحقائق التاريخية يجب إلقاء بقعة من الضوء عليها حتي يكتمل وضوح الصورة.

   في البلقان خاصة في المنطقة حول البوسنة شكل الصرب أمارات شرق البوسنة، والكروات إمارات في شمال وغرب البوسنة وكانت هذه الإمارات تتبع الدولة الرومانية. وبعد انقسام الامبراطورية الرومانية إلى شرقية بيزنطية (ارثوذكسية) ورومانية غربية (كاثوليكية)، بالتبعية صارت الإمارات الصربية والبوسنة والهرسك أرثوذكسية وكرواتيا كاثوليكية.

   كان السكان الأصليون للبلاد من الأليريين الذين استقروا في المنطقة منذ الألفية الثانية قبل الميلاد، ثم وفدت إليها القبائل السلافية في نهاية القرن السادس الميلادي وهم من الهنود الأوربيين، وانتشرت  معهم الديانة المسيحية  في المنطقة في القرن السابع الميلادي. وفي عام 1415 غزي العثمانيون المنطقة بقيادة محمد الفاتح، وكعادة الغزاة المسلمين فرضوا علي السكان أن يدخلوا الإسلام أو يدفعوا الجزية أو القتل، فدخل الكثير منهم الإسلام. كما استقر الكثير من جند الأتراك وعائلاتهم واختلطوا بالبوشناق وتصاهروا معهم، وهذا يعني أن الكثير من البوشناق هم من السكان الأصليين للبلاد "سلافيون" والبعض من أصل عثماني اندمج معهم وأصبح بوسنيا بالمصاهرة وبالمولد. استمر انتشار الإسلام في البوسنة عبر العثمانييّن الأتراك والمؤسسات التي أنشؤوها، ولم ينتشر على أيدي الدُعاة أو عن طريق التُّجار.

   البوسنة والهرسك هي بلد أوروبي ذو تاريخ طويل. فلقد كانت كيانا جيوسياسيا هاما طيلة الفترة الممتدة من العصور الوسطى وحتى الوقت الحاضر. ولقد كانت مملكة مستقلة فترة طويلة خلال الحقبة الممتدة من عامي 1180 وحتى عام 1436، وأصبحت ما بين عامي 1580 إلى 1878م عبارة عن (أيالت) وهو المصطلح المستخدم لتسمية أكبر وحدة من الأراضي ضمن الإمبراطورية العثمانية، ثم انفصلت وتحولت ما بين عامي 1878م-1918م أرضا تابعة "للتاج الملكي" تابعة للإمبراطورية النمساوية-الهنغارية، ومن ثم أصبحت في الفترة ما بين 1945-1992 إحدى الجمهوريات الاتحادية في يوغوسلافيا السابقة. وهكذا فإنها كانت خلال 650 سنة من ثمانمائة عام الماضية موجودة على الخرائط كيانا يطلق عليه اسم البوسنة والهرسك.

   في بداية تسعينيات القرن الماضى كانت يوغوسلافيا أكبر دول البلقان، الدولة التى حكمتها الشيوعية منذ الحرب العالمية الثانية ونجحت فى دمج الدول السبع (صربيا – كرواتيا – البوسنة و الهرسك – سلوفينيا - الجبل الأسود – مقدونيا – كوسوفو) في دولة واحدة تعد من أقوى دول منطقتها تحت قيادة الزعيم اليوغوسلافي يوسيب بروز تيتو.

   تقلد تيتو زعامة للحزب الشيوعي اليوجوسلافي في الفترة من 1939-1980 وقاد المقاومة ضد النازي في الفترة من 1841-1945 ورئيسا لمجلس الوزراء في الفترة من 1943- 1963 وكرئيس اتحاد جمهوريات يوجوسلافيا في الفترة من 1953-1980. بعد الحرب العالمية الثانية كان يريد استقلال يوجوسلافيا عن الاتحاد السوفييتي، وكان أحد مؤسسي حركة عدم الانحياز، وبفضل سياسته الاقتصادية والسياسية الناجحة ازدهرت يوجوسلافيا اقتصاديا وعسكريا في فترة الستينيات والسبعينيات. في عام 1971 تمت إعادة انتخابه رئيسا ليوجوسلافيا، وقدم 20 تعديلا علي الدستور عام 1974. وأعلن عن التعديلات في الاجتماع السادس للجمعية الاتحادية، شملت التعديلات الجديدة الحكم الذاتي للجمهوريات السبع اليوغسلافية أي أنة أعطاهم حكم مستقل عن سلطة الحزب الشيوعي إلا أن الشؤون الخارجية والمالية والتجارة الحرة والقروض الإنمائية والتعليم والرعاية الصحية كانت تكفلها السلطة العليا للحزب الشيوعي أما الشؤون الداخلية فقد كانت تحت مسؤولية الحكم الذاتي للجمهوريا. بدأت حالة تيتو الصحية تتدهور عام 1979 وأصبح طاعن في السن فكان يبلغ من العمر 87 عام وكان يعاني من انسداد شرياني بالساق اليسري. أجريت له عملية جراحية ناجحة إلا إن الشريان تعرض للتلف واضطر الأطباء إلي بتر ساقه اليسري، بعدها ساءت حالته الصحية وتوفي في يوم 4 مايو 1980 في الساعة 3:05 م، وكان على بعد ثلاثة أيام من عيد ميلاده الثامن والثمانيين، وتم اعلان الحداد في جمهوريات الاتحاد السبع لمدة سبع أيام.

   بوفاة هذا الرجل بدأت الحركات القومية في هذه الدول بالظهور، وعلت الأصوات بالإستقلال عن يوغوسلافيا. بدأت سلوفينيا بالإنفصال عام 1991، أتبعتها كرواتيا ثم مقدونيا، و عندما أظهر مسلموا البوسنة النية فى الإنفصال عارضهم صرب البوسنة بقيادة رادوفان كارادجيتش الموالين للعاصمة الصربية بلجراد، و هددوهم بالإبادة إذا إنفصلوا عن جمهورية يوغوسلافيا. أعلنت البوسنة و الهرسك الإنفصال عن يوغوسلافيا في مارس 1992 بعد أن وافق 99% من مسلمي البوسنة في إستفتاءٍ شعبي على هذا القرار، كان يسكنها البوشناق "مسلمون"بنسبة 44%، والصرب "أرثوذكس" يمثلون 31%، والكروات "كاثوليك" 17٪ (رفض صرب البوسنة التصويت)، و من هنا بدأ العدوان. ثلاث سنوات بدأت فى إبريل من عام 1992 و حتى نوفمبر 1995 شهدت البوسنة و الهرسك أبشع جريمة في هذا القرن بعد الحرب العالمية الثانية.

   كما فعل ستالين بإجراء تنقلات عرقية بين مختلف الأقاليم للتخفيف من حدة الشعور القومي والعرقي بالاتحاد السوفييتي، بالمثل قام تيتو بإجراء حركة تنقلات بين المسلمين والأرثوذكس والكاثوليك من جمهورية لأخري للتخفيف من حدة الانتماء الديني بحجة العمل بالمصانع الجديدة. وبالطبع تمركز الصرب القادمين إلي البوسنة قريبا من حدود صربيا، كما تمركز الكروات القادمين إلي البوسنة قريبا من حدود بلادهم، وكانت تلك الحشود من الأسباب الرئيسية لطلب تقسيم البوسنة بعد وفاته، أراد الصرب البوسنيين الانضمام لصربيا وحين رفضت الأمم المتحدة كونوا جمهورية خاصة بهم "صربيسكا" في شرق البوسنة، ورفضت الأمم المتحدة إنضمام الشريط البوسني شمال وغرب البوسنة لكرواتيا.

   خلال العدوان الصربي و الكرواتي على البوسنة، طالب زعيم مسلمي البوسنة علي عزت بيجوفيتش المجتمع الدولي والدول العربية والإسلامية مساعدة شعبة بالسلاح وبالغذاء والدواء والعون للوقوف أمام هذا العدوان. وخلال سنوات الحرب وصلت بعض الإعانات، ويوماً بعد يوم إستطاع المقاتلين البوسنيين المدعّمين بالمقاتلين العرب والمسلمين في إسترداد العديد من المدن والقرى من قبضة معتدي الصرب و الكروات، وتقدموا الى أن وصلوا بالقرب من عاصمة صرب البوسنة بانيالوكا، و حين ذاك تدخل المجتمع الدولي بقيادة أمريكا لوقف الحرب فى نوفمبر 1995 ووقع البوشناق على معاهدة دايتون للسلام.

   اتهمت الحكومة البوسنية صربيا في محكمة العدل الدولية باشتراكها في جريمة الإبادة الجماعية للبوسنة، خلال العدوان الصربي والكرواتي، حيث قُدّم أكثر من 160 صربي أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي بتهمة إرتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية، وكان من أبرز المتهمين الرئيس الصربي السابق سلوبودان ميلوشوفيتش الذي عثر علية ميتا في زنزانتة عام 2006، وزعيم صرب البوسنة رادوفان كارادجيتش و قائد قواتة المنفذ لمذبحة سريبرينيتسا الجنرال راتكو ملاديتش. جاء قرار محكمة العدل الدولية على نحو فعال بتحديد أن طبيعة الحرب هي دولية، وبالرغم من تبرئة صربيا من المسؤولية المباشرة عن الإبادة الجماعية التي ارتكبتها القوات الصربية في جمهورية صرب البوسنة (صربيسكا)، إلا أن المحكمة خلصت بأن صربيا فشلت في منع الإبادة الجماعية التي ارتكبتها القوات الصربية وفشلت في معاقبة أولئك الذين نفذوا الإبادة الجماعية وخاصة القائد رانكو ملادتش ومن ثم تقديمهم إلى العدالة. وخلصت المحكمة بأن الجرائم التي اقترفت خلال حرب 1992-1995 قد ترقى إلي جرائم ضد الإنسانية حسب القانون الدولي، ولكن تلك الأفعال بذاتها لم تكن إبادة جماعية.

   في مارس 1994 تم التوقيع قادة البوسنة والهرسك على اتفاقات واشنطن وأدى ذلك إلى إنشاء اتحاد البوسنة والهرسك، وفي ديسمبر تم التوقيع علي اتفاقية دايتون بمدينة دايتون بين كل من رؤساء البوسنة والهرسك علي عزت بوجوفيتش والكرواتي فرانيو تودجمان والصربي سلوبودان ميلوسيفيتش لوقف الحرب والبدء بإنشاء الهيكل الأساسي للدولة الحالية.

   كان تيتو سدا منيعا أمام أطماع روسيا في الوصول إلي البحر الأدرياتيكي عن طريق البوسنة حتي يتقي الغضب الأمريكي المعارض لذلك "وكانت تلك من أسباب العداء بين تيتو وبين ستالين الديكتاتور السوفييتي". وبعد وفاة تيتو عاودت روسيا الضغط علي الصرب لتحقيق مطالبها. وعندما أحست الولايات المتحدة بهذه الأطماع حرضت ذيلها التركي بالضغط علي قادة البوسنة لما بينهم من وشائج وعلاقات اجتماعية ودينية، حتي يرفضوا هذا المطلب ويطالبوا بالانفصال عن يوجوسلافيا، وهذا هو السبب الرئيسي للحرب، والحقيقة الدامغة التي لا يمكن انكارها هي أن الحرب البوسنية لم تكن حربا دينية بل هي حرب سياسية بالوكالة بين روسيا والولايات المتحدة.

   أرقام القتلى (في الحرب البوسنية) حسب مركز البحث والتوثيق في سراييفو (تقرير يونيو 2009):
* إجمالي القتلى من الجنود 57,529 (بوشناق 54.4%، صرب 35.9%، كروات 9.5% آخرون 0.2%).
* إجمالي القتلى من المدنيين 39,695 (بوشناق 83.4%، صرب 10.3، كروات 5.4%، آخرون 0.9%).
* إجمالي القتلى جنود ومدنيون 97,214 (بوشناق 66.2%، صرب 25.5%، كروات 7.8%، آخرون 0.5%)

   والآن يعيش البوشناق المسلمين جنباً الى جنب مع صرب البوسنة و الكروات بلا مشاكل تذكر، وبالرغم من إنخراط البوسنة فى المجتمع الأوروبي و تمتعها بالأمن والإستقرار وإنتعاش السياحة والإستثمار وإقبالها على الإنضمام إلى الإتحاد الأوروبي, إلا أن شوارع مدن و قري البوسنة والهرسك لا تزال تشهد آثار هذه الحرب الضارية، وبإمكانك مشاهدة جدران بعض البنايات في سراييفو مليئة بآثار الرصاص، و شوارعها لا تخلو من آثار القذائف، فهل ذاكرة الشعب البوسني قادرة علي تناسى العدوان، وهل أهالى الضحايا قادرون علي نسيان فقد وتشريد ذويهم والعودة إلي الحب والوداد المفقود بين الأخوة الذين صاروا أعداء؟ أشك في ذلك وأخشي أن المستقبل ينتظر مخاض أحداث أرجو ألا تكون.

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع