الأستاذ على بواسير وعبدالحميد فتاق!
مقالات مختارة | خالد منتصر
الجمعة ١٥ سبتمبر ٢٠١٧
الحوار مع د.أحمد عكاشة متعة لا تنتهى، متعة على المستوى العقلى والروحى، منتهى الحكمة وأيضاً منتهى خفة الدم، جلست ساعتين فى حضرته محاوراً عن الكتب التى شكلت عقله ووجدانه، حكى لى قصة تأثير د.ثروت عكاشة على شخصيته وكيف أحب الفن والإبداع وتعلم الإحساس بالجمال من خلال هذا العملاق العظيم والمعلم المؤسس والمجتهد الدؤوب، لكن أهم ما حكاه لى هو كيف اختار تخصص الطب النفسى.
تخرج د.عكاشة بتفوق وكان من ضمن الخمسة الأوائل على دفعته والمتاح أمامهم الاختيار من بين كل التخصصات وبمنتهى الحرية، وبالطبع كانت الجراحة هى المقصد والهدف والمنال والباب الملكى للعبور إلى دنيا الثراء، لم يعجب د.عكاشة بهذا الفرع برغم كل تلك الإغراءات، وكانت الصدمة حين ناداه الأستاذ وطلب منه تحضير «حالتين بواسير وحالة فتاق وتلاتة مرارة»... الخ، طلب هذه الحالات بكل برود وكأنه يطلب فنجان قهوته الصباحية، وعندما سأله النائب الشاب أحمد عكاشة ببراءة عن أسمائهم، انتفض الأستاذ الكبير مندهشاً من سؤاله الساذج من وجهة نظره: «أسماء إيه وانت يهمك إيه من أسمائهم دول مجرد حالات؟!»، استكمل النائب سؤاله: «يعنى أنده عليهم على بواسير وخليل مرارة وعبدالحميد فتاق؟!»، لم ينتبه الأستاذ إلى دلالة هذه اللقطة العكاشية وأخذها على سبيل الطرفة والمزاح، وصمم أحمد عكاشة منذ ذلك اليوم على اختيار فرع لم يكن موجوداً فى فروع الطب المصرية ككيان مستقل، فرع الطب النفسى، قرر أن يتعامل مع الإنسان كإنسان متكامل لا أعضاء منفصلة، كبنى آدم له اسم وهوية وليس كطحال وكبد وبنكرياس، وبدأت الرحلة وعاد ليؤسس قسم الطب النفسى فى جامعة عين شمس، خلال الحوار لمست تلك اللمحة الإنسانية وسر هذا التفرد وذاك التميز، إنه الرؤية الشاملة والتكامل الإنسانى ونظرة الطائر المحلق، نصحنى فى تخصصى قائلاً «الجلد يبكى»، وحكى لى عن كيف تؤثر النفس فى أعضاء الجسم لتجعل الكبد يبكى والبنكرياس يصرخ والقلب يدمع والطحال ينتحب!!، كانت البوابة التى دخل منها إلى عالم الطب النفسى هى بوابة الأدب، فقد ذهب إلى إنجلترا بحلم الحصول على شهادة الدكتوراه فعاد إلى مصر بشهادة الإنسانية وقراءة الإنسان، كان الفضل لأستاذه الذى بدلاً من إعطائه مرجعاً فى الطب النفسى أعطاه رواية المحاكمة لـ«كافكا»!، فعاد إليه طالب الدكتوراه وهو يتساءل عن هذا التفكك وتلك الأفكار المتطايرة كالشظايا والتى يتحدث بها البطل، فقال له الأستاذ الإنجليزى مبتسماً لقد نجحت فى تحليل شخصية البطل، ستصبح حتماً طبيباً نفسياً ناجحاً، لا بد أن يحفظ كل طبيب دلالات هذا الكلام من تلك القامة الكبيرة، لا بد أن يتخلى كل طبيب عن مفهوم ميكانيكى الجسم وسمكرى الجسد ويتبنى مفهوم الإنسان ويعالج المريض قبل المرض.
نقلا عن الوطن