لماذا قتلنا «أماديوس»؟
مقالات مختارة | خالد منتصر
الاربعاء ١٣ سبتمبر ٢٠١٧
من أكثر الأفلام التى أعشقها ولا أملُّ من مشاهدتها عدة مرات فيلم «أماديوس» الذى يحكى قصة حياة الموسيقار العبقرى موتسارت. غرامى بهذا الفيلم ليس نتيجة أنه من إخراج العظيم ميلوش فورمان فقط، ولا لأنه حصد «الأوسكار» باكتساح فى معظم الفروع فى منتصف الثمانينات، ولكن لأنه ناقش، وبمنتهى الذكاء، قضية الموهبة الفنية التى لا تخضع لحسابات أو معايير وتتمرد على التصنيف والفهرسة والقياس. ودائماً يحضرنى هذا الفيلم وتستدعيه الذاكرة فى ذكرى الفنان الموسيقار الراحل بليغ حمدى، فأنا أجد شبهاً كبيراً بين موهبة بليغ حمدى وبين أماديوس موتسارت، من حيث الموهبة المتفجرة الفياضة التى يتسم صاحبها بالفوضوية والبوهيمية، وأيضاً من حيث الحقد الرهيب والغيرة المشتعلة من الدارسين الأكاديميين تجاه غير المنخرط فى المعاهد والكليات، والتساؤل الملح الملىء بالشك والتربص وعدم تصديق أن كل هذا الفيضان الفنى يتفجّر من هذا الطفل النحيف الذى ليله نهار ونهاره ليل ويعيش حياته هائماً فى فنه كالممسوس عاشقاً لكل ما هو جميل فى الحياة. صادم فى تصرفاته وردود أفعاله، طفل لا يشيخ، هكذا كان موتسارت، وهكذا كان بليغ. فيلم «أماديوس» كان يحكيه فلاش باك أستاذ الموسيقى الأكاديمى العملاق «ساليرى»، وكيف أنه كان يتعجب ويندهش من الجمل والتراكيب الموسيقية التى تخرج من مسام هذا العبقرى وكأنه يتنفسها أو ينضح بها كالعرق وبدون أى جهد أو حزق أو افتعال، وكيف أنه -وهو الأستاذ والمعلم- لا يستطيع اقتناص مجرد جملة موسيقية مثل التى يبدعها موتسارت هذا الطفل المجنون الأحمق؟!
جُن جنون «ساليرى» لدرجة أنه متهم بشكل غير مباشر بأنه دس السم وقتل موتسارت! كم «ساليرى» قتل بليغ حمدى فى مصر؟! كُتبت ضده مقالات مهاجمة وجُيشت جيوش الكتّاب لاغتياله معنوياً وفنياً، حُكم عليه بالسجن وكُتب عليه النفى حتى عاش ميتاً فى الغربة وجاء إلى وطنه باكياً مريضاً بالسرطان ينزف حباً وعشقاً لمصر ليُدفن فيها بعد أن غنى لها بصوته مودعاً إياها بحنجرة شرخها الغدر والشجن: «رغم البعد عنك، عمرى ما حانسى إنك، أمى وإنى ابنك، وإنى حتة منك»، وكما بكى هو فى تلك الأغنية أبكى أنا حتى اليوم كلما استمعت إلى رقصة المذبوح الأخيرة على موسيقى بوابة الحلوانى: «اللى بنى مصر كان فى الأصل حلوانى وعشان كده مصر يا ولاد حلوة الحلوات»، امتداداً لاعتصامه أمام باب الإذاعة فى أكتوبر 73 ليبدع لنا «على الربابة» و«بسم الله» حباً فى تراب هذا البلد. مجتمعنا دوماً لا يتحمل ويلفظ هذا النوع من العباقرة الذى لا يصنع فنه أو ينسج إبداعه بالجدول والمسطرة و«الستوب ووتش»، لا يتسامح مع جنونهم الخلاق وقلقهم المتوهج وحساسيتهم المفرطة ولسعانهم المستفز، يلتهمهم ويمتص دمهم ويمسك سيرتهم ويغتالهم معنوياً ويتشكك فى إبداعهم ويتربص بإنتاجهم، وبدلاً من أن يبحث عن سر عبقريته وكيف أنتج كل هذا الكم الذى كله جميل ورائع وبديع وعلى نفس المستوى سواء كان حليم أو عدوية أو النقشبندى، سواء كانت مسرحية ريا وسكينة أو فيلم شىء من الخوف، بدلاً من هذا يظل يندب ويلطم ويسخر بل ويحرض عليه. طيبته قالوا عليها عبطاً، وكرمه وتفريطه فى المال وصفوه بالهبل، حلمه بالأوبرا والأوبريت المصرى سخّفوه وقالوا أضغاث أحلام واستعراضات أطفال، ألحانه الراقصة المحبة للحياة المبهجة اعتبروها فسقاً وفجوراً ودربكة وخيانة للموسيقى العربية الكلاسيكية وتجاوزاً فى حق الآباء المؤسسين لها.
كم «ساليرى» فى مصر طعنك بخنجر يا بليغ، وكم من ناب هتك لحمك وافترس روحك النبيلة المحلقة وجعلها تنزف الشجن والحزن وصدمة الأحباب!! اليوم عرفنا فى ذكراك كم كنا قساة وكم كنت فناناً.
نقلا عن الوطن