مسرحية جديدة لأجاثا كريستى؟
مقالات مختارة | نوال السعداوي
الاثنين ١١ سبتمبر ٢٠١٧
يستولى الجزء الرابع من كتابى «أوراقى حياتى» على كل وقتى وجهدى، تستنزف المشاغل الأخرى طاقتى وخلايا عقلى، خاصة رحلات السفر، تقطع الطائرة النفاثة الخيط الرقيق من الحرير الذى يربطنى بذاكرتى الطفولية، وكنت مدعوة لافتتاح مهرجان العيد المئوى لميلاد الكاتبة الإنجليزية «أجاثا كريستى» الذى يعقد اليوم فى توركاى – ديفون، جنوب بريطانيا، حيث ولدت ونشأت أجاثا كريستى. بعد اعتذارى عن عدم السفر طلب منى الداعون كتابة كلمة يقرأها أحدهم يوم الافتتاح، وتحيَّرت ماذا أكتب، فأنا لم أقرأ لها إلا القليل، ولم أشهد مسرحياتها التى دارت حول الجريمة وألغازها، وشخصيات أبطالها أغلبهم من مفتشى البوليس، يشبهون شارلوك هولمز، لكنها كاتبة مميزة نادرة، عاشقة لحضارة مصر القديمة والعراق وسوريا، تنقب قى تاريخ أهل بابل والكلدانيين والآشوريين والآراميين. وتذكرت إحدى مقولاتها الساحرة الذكية، ترد بها على السؤال: «من هو أفضل زوج للمرأة فى نظرك؟»، وكان زوجها «ماكس مالوان» الأنثروبولوجى المعروف من أبرز علماء الآثار القديمة، تكبره بعشرين عاماً تقريباً، عاشت معه خمسة وأربعين عاماً فى سعادة حتى ماتت، ردَّت أجاثا كريستى قائلة: «أفضل زوج للمرأة هو عالم الآثار القديمة، فاهتمامه بزوجته يزداد بازدياد تقدمها فى العمر»، كانت تضحك من قلبها ساخرة من الثقافة الذكورية التى ترى المرأة كبيرة العقل شيطاناً أو عجوزاً شمطاء، وتجعل الرجال العجائز يلهثون وراء الصغيرات التافهات، ويكرهون النساء الذكيات المفكرات.
السخرية من «عقل» المرأة جزء من التراث الموروث للذكور، مثل ما قاله «برنارد شو» لامرأة جميلة اقترحت أن يتزوجها بأمل إنجاب طفل يرث وجهها وعقله، فأجابها: «لكنى أخشى يا سيدتى أن يرث وجهى وعقلك»، وكان توفيق الحكيم يقول إن المرأة التى تتكلم فى الفلسفة «قبيحة»، لأن
«فم المرأة لم يُخلق للكلام بل ليقبله الرجال».
القدرة على السخرية تقتضى جرأة لنقد المقدسات، وثقافة متصلة الحلقات، ومعرفة متراكمة بالتاريخ، وهى أمور لم تكن مباحة للنساء منذ تأثيم حواء، إذ إن الإله الذكورى (يهوه) ملأ قلوبهن بالخوف من لذة المعرفة «الثمرة المحرمة»، ومع تراكم الخوف، على مدى الأزمنة، عجزت عقولهن عن السخرية، فالخوف والضحك لا يجتمعان فى قلب واحد، وكان الضحك ممنوعاً على النساء بالمعابد حتى العصور الوسطى، وإن ضحكت امرأة رغم أنفها فلا بد أن تكتم فمها بيدها وتطلب المغفرة، لم أشهد فى طفولتى امرأة تضحك دون أن تغطى فمها وتهمس: «اللهم اجعله خير يا رب»، إلا أمى «زينب هانم»، كان لها ضحكة مميزة كرنين الماء الرقراق فى النهر العذب، تسرى فى أذنى حتى اللحظة، رغم موتها منذ ستين عاماً، وكنت فى مراهقتى أخشى الضحك بصوت عال، أو القهقهة، كما يفعل الرجال، وأتردد فى كتابة الفكاهات الساخرة من رجال العائلة الكريمة، على رأسهم جدى الأكبر، فلا شىء يهدد أركان النظام المهيب مثل سخرية النساء والعبيد.
تنبع السخرية من عقل لم يفسده التخويف أو التعليم الردىء، عقل فيه مرونة طبيعية وتلقائية الأطفال، لا تنبع السخرية من عقل متجمد عاجز عن التجديد، حبيس التقاليد. دخلت فى طفولتى مدرسة ابتدائية متعددة الجنسات والديانات، وكان مقرراً علينا أن نحفظ بعض آيات من أديان مختلفة، كان المدرسون عاجزين عن شرحها، يفرضون علينا حفظها عن ظهر قلب دون فهم، كنت وزميلاتى نحاول فهمها بأنفسنا دون جدوى، خاصة الآيات عن الرق والسبايا والبغايا وما ملكت أيمانهم، وآيات تقول إن المولودة الأنثى تصيب والدتها بنجاسة أربعة وستين يوماً، أى ضعف نصيب الذكر من النجاسة (اثنين وثلاثين يوماً فقط)، وعلى الأم المسكينة أن تقدم للرب فرخة مشوية ليغفر لها ذنبها ويطهرها من دمها، وآيات أخرى تعتبر مدينة بابل الفاضلة امرأة عاهرة، شرب ملوك الأرض من زناها، وأهلها يستحقون الإبادة، لأنهم توحدوا وحققوا النمو لمدينتهم وأقاموا برج بابل العظيم، فأمر الرب بهدم البرج وتشتيتهم فى أنحاء الأرض أشتاتاً، وبلبلة ألسنتهم، لهذا سميت بابل. كان عقلى الطفولى يعتبر هذه الأساطير حكايات لتسلية الأطفال، لكنى اكتشفت، بعد أن كبرت، أنها راسخة فى القيم الأخلاقية المقدسة والتقاليد الموروثة.
لو كانت أجاثا كريستى تعيش فى عالمنا العربى اليوم، كما عاشت منذ نصف قرن، وحيث أصدرت الكثير من مؤلفاتها فى العراق وسوريا ومصر، منها كتاب بعنوان «إخناتون»، هل تكتب مسرحية جديدة عن ألغاز جرائم داعش فى الأرض الموعودة من الفرات للنيل؟ هل تفك اللغز وتنزع النقاب عن وجوه الآلهة متعددة الجنسيات: الأوروبية، الأمريكية، الإسرائيلية، وتوابعهم فى أمة العرب؟
وأنهيت كلمتى، التى قرأها أحدهم فى افتتاح مهرجان «أجاثا كريستى» البريطانى، فى توركاى، بهذا السؤال الأخير.
نقلا عن المصري اليوم