احذروا الفن الهاتف.. فن «البرافدا» و«الكارت بوستال»
مقالات مختارة | بقلم : خالد منتصر
الثلاثاء ٥ سبتمبر ٢٠١٧
ما أزعجنى فى تصريحات الفنان محمد رمضان ليس انتقاده لإسماعيل يس وأفلامه عن الجيش، لكن ما أزعجنى حقاً هو تصوّره عن الأفلام الوطنية أو عن الفن عموماً، وهذه هى النقطة الخطيرة فى الموضوع كله، من حق «رمضان» وغيره انتقاد أى فنان وأى فيلم، فالفنان ليس صنماً نعبده، وسلفية الفن مثلها مثل سلفية الدين؛ قاتلة لأى فكر وأى إبداع، لكن الذى ليس من حقه هو تبنى وجهة نظر غير فنية فى انتقاده، فهو قد تبنّى وجهة نظر دعائية وليست فنية، وهذه هى نقطة الخلاف، وليس دور الفنان أن يهتف فى مظاهرة تحت دعوى الفن الهادف، وقتها سيُصبح الفن الهاتف لا الهادف، والواقع وما تعلمناه فى تاريخ الفن أن هذا النوع لا يخلد وليس فناً من أصله، فتناول تاريخ أى مؤسسة أو أى شخص أو أى تاريخ لا بد أن يخضع لشروط الفن، والجميل أن إسماعيل يس، وبالتحديد أكثر العبقرى فطين عبدالوهاب، فى سلسلة أفلامه عن الجيش، استخدم الكوميديا، والأهم أنه استخدم واحترم الفن الذى أول شروطه أن يكون إنسانياً وألا يكون بوقاً دعائياً أو «كارت بوستال» سياحياً، جعل البطل إنساناً بسيطاً من الممكن أن يكون منزعجاً من الانضباط العسكرى، وهذا يحدث وطبيعى وعادى جداً، ويتابع الفيلم كيف يتحول هذا المصرى البسيط إلى عاشق لتراب بلده من خلال مجموعة زملائه الجدعان الرجالة بجد، الذين صنع رجولتهم ذلك الانضباط الذى كان خائفاً منه فى البداية، وكلنا يتذكر هذا المشهد الإنسانى الذى خلط دموعنا بضحكاتنا عندما كانت كل أوراق القرعة مكتوباً فيها اسم «رجب» حتى يستطيع الزواج من حبيبته، لكن طرح محمد رمضان، الذى أخشى أن يكون هو الطرح الذى تبنّاه صنّاع الفيلم الجديد الذى يُصور بطولات الجيش ويُجسّده «رمضان والسقا»، هذا الطرح الرمضانى هو نفس طرح صحيفة «البرافدا» السوفيتية التى كانت صوت الحزب الشيوعى السوفيتى، ولا يقرأها أحد إلا مجبراً، ونشرات المحافظات التى تُمجّد المحافظ ولا يقرأها إلا المحافظ نفسه!!، الخوف هو أن تتحكم تلك الفلسفة فى هذا الفيلم ويخلو من روح الفن ويموت فى صالات العرض بإسفيكسيا اللافن، الفن الحقيقى ليس فيه الأبيض والأسود والشيطان والملاك، الفن فيه ألوان الطيف وجوهر الإنسان الذى يكون الضعف فيه ملمحاً أساسياً، هذا الإنسان الفولاذى الذى لا يخطئ ولا ينهزم غير موجود إلا فى الهلاوس السمعية والبصرية!، لا نريد أفلاماً على شاكلة «بدور»، وهو أسخف تجربة سينمائية مصرية تناولت أعظم معركة حربية وطنية، لا يكفى نُبل القضية ولا عظمة الهدف ولا إخلاص النية ولا روح الوطنية ولا حماس الثورية، كل هذا هباء وفراغ إذا لم يحضر الفن، النفس الفنى إذا افتقدناه ستصبح الطبخة السينمائية بلا طعم، وتصيب المتفرج بالتلبك اللافنى، ستصبح مجرد مظاهرة حنجورية.