الأقباط متحدون - مصر من دين الدولة إلى دولة الدين
  • ١٣:٣٩
  • الخميس , ٣١ اغسطس ٢٠١٧
English version

مصر من "دين الدولة" إلى "دولة الدين"

مقالات مختارة | د. عمار علي حسن

٤٣: ٠٨ م +02:00 EET

الخميس ٣١ اغسطس ٢٠١٧

د. عمار علي حسن
د. عمار علي حسن

لم تخلُ أي مرحلة تاريخية لمصر من علاقة ما بين الدين والدولة، منذ الفراعنة وحتَّى اللحظة الراهنة، إذ للدين في مصر مكانة مُتأصِّلة في النفوس والقلوب والعقول بصرف النظر عن تفاصيل التدين وطقوسه وتنقله من أديان مصر القديمة إلى اليهودية والمسيحية والإسلام، واستغلاله الممقوت في السياسة والتجارة، وجعله وسيلة، على يد البعض، للإيهام والسيطرة والبغض والاقتتال.

على الجانب الآخر فإن للدولة، بتشكُّلاتها المادية وتجلِّياتها الرمزية، مكانتها الراسخة لدى المصريين عامة لقِدمها، إذ أنَّها أول دولة في تاريخ الإنسانية، ولمركزيتها الصارمة، وكذلك للدور أو الوظائف التي تؤدِّيها طيلة تاريخها المديد.

هذه الخبرة التاريخية لم تمتْ، رغم تعاقب القرون، وتبدّل الأحوال بل أُعيد إنتاجها في سياقات وفضاءات اجتماعية مختلفة، إلى أن وصلنا إلى الحقبة المعاصرة التي يشهد فيها السجال والتنافس والصراع بين السلطة السياسية والجماعات التي تتخذ من الإسلام أيديولوجية لها فصلًا جديدًا، يدور حول مسائل تتعلق بـ "دين الدولة" و"دولة الدين" تُفرز خطابات وأدبيَّات ووقائع وأحداث، وتدابير تنظيمية وحركية، وشبكات وبنى اجتماعية عديدة.

وهذه الحمولات الفكرية والحركية تُعدُّ غاية في الدلالة بالنسبة للتجربة المصرية على وجه الخصوص، لارتباط الدولة بالدين الضارب بجذوره في القرون الغابرة، ولقيام أول جماعة، بعد ظهور الدولة الوطنية، تربط الدين بالسياسة إلى حد عميق، وتحول الإسلام إلى مشروع سلطة سياسية، وهي جماعة الإخوان على أرض مصر، وكذلك لوصول هذه الجماعة إلى الحكم بشتى أركانه، بعد أن ظلَّتْ عقودًا من الزمن تقول للناس: امنحوني الفرصة، لتصبح تجربتها تلك مثلًا سيظل يُضرَب حتى سنين طويلة قادمة.

وهذه المسائل العامة وتفاصيلها الصغيرة انتظمت في رافدين أساسيَّيْن هما:

أ ـ تطور البحث عن "دين للدولة":
تبقى أقصر الطرق لرصد هذا التطور، وأكثرها رسوخًا وشمولًا هو تتبع هذه المسألة في الدساتير المصرية المتعاقبة، باعتبارها هي الإطار المرجعي الأساسي للدولة المصرية. إذ إن الدستور يجمع المبادئ العامة المتعلقة بتنظيم وباختصاصات السلطات العامة في صكٍّ رسمي مستقر، ومن ثم فهو يمنحنا الاقتراب الأفضل في دراسة كل ما يتعلق بالدولة، سواء كان الدين أو غيره.

وقد خلا أول دستور صدر لمصر عام 1882 من ذكر "الإسلام" دينًا للدولة، لكن جاء دستور 1923 ليبدأ أول خطوة في الاتجاه المضاد حين نص في المادة 149 منه على أنَّ "الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية"، ثم نصَّ في المادة 12 منه على أن "حرية الاعتقاد مطلقة"، فيما نصت المادة 13 على أن: "تحمي الدولة حرية القيام بشعائر الأديان والعقائد طبقًا للعادات المرعية في الديار المصرية على ألا يخلَّ ذلك بالنظام العام ولا يُنافي الآداب".

وأُلغيتْ مثل هذه المواد في دستور 1930 الذي اكتفى بالنص على: "المصرييون متساوون في الحقوق والواجبات ولا تمييز بينهم بسبب الأصل، أو اللغة، أو الدين، وإليهم وحدهم يُعهد بالوظائف الحكومية والمدنية والعسكرية". لكن دستور 1954، الذي لم يطبق ولا تزال نصوصه تحظى برضاء واحترام القانونيين والسياسيين الثقات في مصر، فقد أعاد في المادة 95 منه ما ورد في دستور 1923، من أن "الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية"، ثم في المادة 11 التي نصَّتْ على أنَّ "حُرية الاعتقاد مطلقة، وتحمي الدولة حرية القيام بشعائر الأديان والعقائد طبقًا للعادات المرعية في الديار المصرية، على ألا يخلَّ ذلك بالنظام العام أو يُنافي الآداب". كما نصَّتْ المادة 48 على أن "الأسرة أساس المجتمع وقوامها الدين والأخلاق والوطنية ويكفل القانون تدعيم الأسرة وحماية الأمومة والطفولة وتوفير المنشآت اللازمة لذلك". وكرر دستور 1964 ما سبق أن ورد في دستورَي 1923 و1954 من أن "الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية".

أما دستور 1971 فقد أخذ طريق البحث عن "دين الدولة" خطواتٍ أوْسع حين نصَّ في المادة الثانية منه على أنَّ "الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع"، وإن كان قد ذكر في المادة 40 على أن "المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة".

وحافظ الإعلان الدستوري الذي أصدره المجلس الأعلى للقوات المسلحة عقب ثورة يناير على المادة الثانية كما وردت في دستور 1971، ثم جاء دستور 2012، الذي سيطرتْ جماعة الإخوان والسلفيون على صناعته، ليقطع شوطًا واسعًا نحو "دين الدولة" بمحافظته على المادة ذاتها ثم إضافة مادة عن شرائع الأديان الأخرى تنص على أن "مبادئ شرائع المصريين من المسيحيين واليهود المصدر الرئيسي للتشريعات المنظِّمة لأحوالهم الشخصية، وشئونهم الدينية، واختيار قياداتهم الروحية".

وأعادت المادة 10 من هذا الدستور توظيف الدين في تسيير شؤون الدولة من زاوية مغايرة حيث نصَّتْ على أن "الأسرة أساس المجتمع، قوامها الدين والأخلاق، وتحرص الدولة والمجتمع على الالتزام بالطابع الأصيل للأسرة المصرية، وعلى تماسكها واستقرارها، وترسيخ قيمها الأخلاقية وحمايتها؛ وذلك على النحو الذي يُنظّمه القانون".

لكنَّ هذا الدستور لم يكتفِ بتحديد إطار عام قابل لتأويلات متعددة أو مفتوح على اجتهادات متنوعة حول الشريعة، حين نصَّ في المادة الرابعة منه على أن "الأزهر الشريف هيئة إسلاميَّة مستقلة جامعة، يختص دون غيره بالقيام على كافة شئونه، ويتولى نشر الدعوة الإسلامية وعلوم الدين واللغة العربية في مصر والعالم. ويؤخذ رأي هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف في الشئون المتعلقة بالشريعة الإسلامية. وشيخ الأزهر مستقلٌّ غير قابل للعزل، يحدد القانون طريقة اختياره من بين أعضاء هيئة كبار العلماء. وتكفل الدولة الاعتمادات المالية الكافية لتحقيق أغراضه. كل ذلك على النحو الذى ينظمه القانون".

وجاءت التعديلات التي دخلت على هذا الدستور عقب الإطاحة بحكم جماعة الإخوان لتلغي هذه المادة الثالثة، التي لاقت اعتراضًا حادًّا من القوى المدنية والمثقفين، لكنها أبقتْ على المادتين الثانية والثالثة على حالهما، ونصَّتْ في المادة 19 على أن "التربية الدينية مادة أساسية في مناهج التعليم العام". ثم وضعت التعديلات حاجزًا أمام تكوين أحزاب على أساس ديني، حيث نصَّت المادة 54 على أن للمواطنين حق تكوين الأحزاب السياسية بمجرد الإخطار وفقًا للقانون، ولا يجوز مباشرة أي نشاط سياسي أو قيام أحزاب سياسية على أساس ديني، أو بناء على التفرقة بسبب الجنس أو الأصل، أو ممارسة نشاط معادٍ لنظام المجتمع، أو سرّي، أو ذي طابعٍ عسكري أو شبه عسكري. ولا يجوز حل الأحزاب إلا بحكم قضائي".

لكن تطبيق هذه المادة في الواقع لا يزال يثير جدلًا كبيرًا في مصر، فبعد حل الحزب الذي شكَّلتْه جماعة الإخوان وهو "الحرية والعدالة" والذي كانت الجماعة، كتنظيم ديني بالأساس، تسيطر عليه تماما، هناك من القوى الحزبية المدنية من ينظر إلى ما تبقَّى من أحزاب شكَّلها التيار السلفي على أنها "أحزاب دينية" وإن كان السلفيون يرفضون هذا. ووصل الأمر إلى حدِّ أنَّ هناك من أطلق حملة، انضمت إليها أحزاب يسارية وليبرالية، تحت شعار "لا للأحزاب الدينية".

وما جرى من محاولات لتحديد دين للدولة أو وضع الدين ضمن الإطار العام الذي يحكم الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية في مصر يشي بعدة ملاحظات يمكن ذكرها على النحو التالي:

1 ـ استمرت عملية تحديد دين للدولة محلَّ شدٍّ وجذب، لتعكس جانبًا مهمًّا من الصراع المدني ـ الديني في المجتمع المصري من ناحية، ومدى توظيف الإسلام في كسب الشرعية من ناحية أخرى، أو خطب ود الجماعات الدينية المُسيَّسة، أو الساعية إلى السلطة، أو استعمالها في تعبئة الشعب حول توجهات السلطة، مثلما استغل السادات المادة الخاصة بتطبيق الشريعة في تمرير مادة أخرى حوَّلتْ بقاء الرئيس في السلطة من "مدتين" إلى مدد، وجاراه الإخوان والسلفيون في هذا.

2 ـ ظلَّتْ هذه المسألة محل اعتراض من مفكرين وساسة مدنيين احتجوا على ذلك بأن الدين مسألة تخص الأفراد، أما الدول فلا دين لها، لأنها لا تحشر في الآخرة، ولا تحاسب أمام الله سبحانه وتعالى. وأن أي تذرع بأن الدولة شخصية اعتبارية لتقبل فكرة أن يكون لهذه الشخصية دين هو واه، ولا يمكنه أن يقيم حجة أو برهان، وليس إلا طريقة للتلاعب بمشاعر الجماهير، واستغلال تديّنها في تعبئتها حول المشروع السياسي للجماعات الدينية الساعية إلى تحصيل الحكم.

3 ـ تدخَّلتْ الدولة بغية التخفيف من غلواء استغلال الجماعات الدينية ذات المشروع السياسي عبر إسناد تطبيق "مبادئ الشريعة كمصدر أساسي للتشريع" إلى المشرعين أنفسهم، بحيث يضعون هم القوانين التي يُمكن أن تعبر عن تجلي قيم الشرع وروحه وتصوراته العامة في التشريع، وهي مسألة حاول الإخوان والسلفيون الالتفاف عليها وقت صناعة دستور 2012 حين أرادوا أولًا، وبشكل سافر، أن ينصوا على تفسير للشريعة وتحديد لها بأنها "مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية، وقواعدها الأصولية والفقهية، ومصادرها المعتبرة، في مذاهب أهل السنة والجماعة".

لكن ضغط القوى المدنية جعلهم يتراجعون إلى الحيلة بالنص في المادة الثالثة على أخذ رأي هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف في الشئون المتعلقة بالشريعة الإسلامية، مطمئنين إلى انتشار مناصري آرائهم بين علماء الأزهر، أو إلى السيطرة عليه في المستقبل جامعًا وجامعة ومعنى وفقهًا ورمزًا. لكنَّ الدولة عادتْ مرة أخرى لتعيد الأمر إلى نصابه بالتعديلات التي دخلت على هذا الدستور عقب الإطاحة بحكم الإخوان.

4 ـ رغم كل ما نصت عليه دساتير مصر من جعل الدين أحد الأطر الأساسية للسياسات العامة، وضمان عدم تعارض التشريعات والقوانين مع الشريعة، وتطبيق كل ما ورد في القرآن من تشريعات، مع استبدال الحدود بعقوبات أخرى، فإن أتباع التيار الديني الساعي إلى السلطة ظلوا طيلة الوقت يعبئون الناس حول مطلب تطبيق الشريعة، ويثيرون سخط قطاع منهم على السلطة بدعوى أنها تحارب الدين، ويرفعون في هذا شعارات من قبيل "الإسلام هو الحل" و"القرآن دستورنا" و"قادم قادم يا إسلام"، وفي ركاب ثورة يناير استبدلوا هتاف الميادين الذي كان يصرخ "عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية.. كرامة إنسانية" بـ "الشعب يريد تطبيق شرع الله"، وكأن الشريعة كانت غائبة عن حياة المصريين.

5 ـ لا تنشغل الجماعات والتنظيمات الدينية المُسيَّسة بالانتهاك المستمر للدستور في أغلب مواده، خاصة باب الحريات العامة والحقوق الاجتماعية والاقتصادية، وكل ما يعنيها طيلة الوقت هو نسبة وحجم ومقدار ومدى تطبيق مادة الشريعة، رغم أن هذه الجماعات مختلفة فيما بينها عن تحديد ماهيّة الشريعة أصلًا.

ب ـ تطور المسعى لإقامة "دولة الدين":
ينبع هذا المسعى من تصور قديم، تحول بمقتضاه الإسلام إلى أيديولوجيا، حيث زعم الحكام أن مُهمَّتهم ليست سياسة الدنيا فحسب، بل حراسة الدين أيضا. ورغم أن الجماعات والتنظيمات الدينية الساعية إلى حيازة السلطة السياسية في مصر لم تَجهر صراحة بأنها تعمل على إقامة "دولة الدين" لكن جوهر مشروعها، وبعض أدبياتها، والكامن وراء سطور وكلام قياداتها يشي بأن هذا مقصدها من دون مواربة، وهو ما يظهر بجلاء في تعبيرها الأثير "دولة إسلامية"، المبثوث في خطابها وأدبياتها بشكل كبير.

فالحديث عن "استعادة الخلافة" وما تسمى "دولة المدينة" و"تطبيق الشريعة" و"نصرة الإسلام" و"الجهاد" و"التماهي مع الأممية الإسلامية" و"أسلمة المعرفة" و"العصبة المؤمنة" والإسهاب في شرح أدوار سياسية وحربية للرسول الكريم (عليه الصلاة والسلام) مع أن مهمته كانت "نُبُوَّةً" وليست "مُلكًا"، كل هذا لا يخلو في أصله من استنبات "دولة الدين"، التي عبر عنها التصور المؤسس لجماعة الإخوان حين انطلق من أن الإسلام "دين ودولة، ومصحف وسيف".

وبناء عليه ظلَّت الجماعات والتنظيمات الدينية المصرية، شأنها شأن أمثالها في بلدان عربية وإسلامية، تنازع الدولة في شرعيتها، أو بمعنى أدق لا تعترف بالشرعية التي تقوم عليها الدولة المصرية، سواء كانت ملكية في عهد ما قبل ثورة يوليو 1952، أو ثورية بعدها، ثم دستورية من خلال الاستناد إلى الدستور كمرجعية، ولو من الناحية الشكلية.

ولم تكن مشكلة هذه الجماعات الأساسية نابعة من تزوير الانتخابات وانتهاك الدستور وعدم وجود الدولة العادلة، إنما كانت مشكلتها تنصرف دومًا إلى ما تسميه "عدم تطبيق الشريعة" و"تغييب الإسلام عن المجال العام"، وتضع جُلَّ اهتمامها بهذا الأمر إلى درجة أنها كانت تغلب بوضوح على خطابها السياسي وتصريحها قادتها وأداء ممثليها في البرلمان الذين كانوا يستخدمون أدوات الرقابة، من سؤال وطلب إحاطة واستجواب وسحب ثقة، في إبراز هذا الموضوع، والمنافحة عنه بقوة ظاهرة.

ورغم ما نصَّ عليه الدستور حول "دين الدولة" كما سبقتْ الإشارة، فإن هذه الجماعات، على اتفاقها في المنهل الذي تغرف منه، وتدرج خطاباتها وأشكالها في التحايل، وموقع ممارساتها من العنف بشتَّى أنواعه، لم تكتف بهذا، وبدا أنها لا ترضى لإقامة "دولة الدين" بديلًا، منتهزة الفرصة الجيدة التي أتاحتها لها ثورة يناير بتشكيل أحزاب دينية، رغم أنها تنفي هذا وتزعم أنها أحزابٌ مدنية شأنها شأن سائر الأحزاب الموجودة على الساحة المصرية.

واختلفتْ الجماعات في وسيلة تحقيق هذا بيْن من يؤمن بالعمل الانقلابي العنيف، ولذا دخل في مواجهة مسلحة ضد السلطة، ومن يؤمن بالتدرج والتحايل. لكن مع مرور الزمن تبدَّلتْ الأدوار، فعاد من استخدموا العنف إلى التحايل، مثلما فعل تنظيم "الجماعة الإسلامية" الذي قبل "مبادرة وقف العنف" وبدأ رحلة تصالح مع السلطة عام 1997 لكن بعض قياداته عادت إلى العنف مرة أخرى خلال حكم الإخوان وبعد إسقاطه. وتقلب الإخوان غير مرة بين العنف المسلح والتحايل، وانسلخ من رحم "السلفية الدعوية" جماعاتٌ وأفرادٌ حملوا السلاح ضد الدولة والمجتمع، وبقي أفراد مِمَّن يطلق عليهم "الإسلاميون المستقلون" أو من ينحازون إلى ما يسمونه "الإسلام الحضاري" على طريقتهم التي تؤمن بأن الأفكار هي الأساس ولذا يجب تجذيرها وترسيخها في العقول، ليوجد مع الزمن جيل مؤمن بها، ومستعد أن ينتظر طويلا في سبيل تحقيق هدفه في النهاية.

لكن من بين الفصيل الأخير من يبدون انتقادات للرؤى المغلقة والمصمتة للمتطرفين والأيديولوجيين العميان حول مسألة "دولة الدين" على الأقل من باب النصيحة لهؤلاء. ويمكن هنا أن نضرب مثلًا بما يقوله واحد من أبرز هؤلاء وهو الدكتور محمد سليم العوا: "في مناقشة جادة جرت منذ وقت قريب قال لي بعض الرجال النابهون الذين تربُّوا في مدرسة الإخوان المسلمين ثم ضاق بعقولهم وجهدهم القالب التنظيمي المغلق، فتركوه إلى آفاق أرحب قالوا: إن المأزق الحقيقي للفكر السياسي الإخواني هو في مقولة: الفرد المسلم/ الأسرة المسلمة/ الجماعة المسلمة/ المجتمع المسلم/ الدولة المسلمة/ أستاذية العالم، وهي مقولة تأسيسية، مرددة مرّات لا تُحصى، في كتابات حسن البنا نفسه، وخطبه ومحاضراته فهم يرون أن الإخوان نجحوا بلا شك في صنع الفرد والأسرة والجماعة، ثم لم يجدوا سبيلًا إلى أي مرحلة من المراحل التالية: المجتمع/ الدولة/ العالم".

وحتى رؤية هؤلاء حول نجاح الإخوان في تكوين "الفرد المسلم، والأسرة المسلمة، والجماعة المسلمة" تحتاج إلى نظر، وتبقى محل شك، في رأي من يقدمون حججًا مضادة تبين أن كثيرًا مما عليه الفرد الإخواني وجماعته، فيه اجتراح للإسلام وافتراء عليه.

وهذا المسعى أوجد عبر الزمن أشكالًا وأنماطا متنوعة ومتدرجة ومتقلبة من التفاعل بين الدولة والجماعات الدينية المسيسة، مثل التحالف والتعاون والتنسيق ثم الانعزال والتنابذ والتنافس والعنف المتبادل والصراع الدموى، حيث تقاربت هذه الجماعات من الدولة المصرية في بعض المراحل بغية دفع تديين المجال العام خطوات إلى الأمام، لكنَّها لم تَلبثْ أن دخَلتْ في مواجهة دموية، لأنَّها لا يكفيها أن تكون طرفًا اجتماعيًّا وسياسيًّا إلى جانب القوى الأخرى اليسارية والليبرالية، والقوى المحافظة المرتبطة بالسلطة، بل تريد أن تهيمن على المجال العام، وكُلَّما شعرتْ أنَّ هذا لن يُتاح لها بالتحايل، رفعت السلاح، لا سِيَّما أن هذه التيارات تتعامل مع الديمقراطية بانتهازية شديدة، وتختزلها في "صندوق الانتخاب" دون إيمان بأن الصندوق مجرد إجراء ضمن إجراءات أخرى، وأن الأهم هو الإيمان بقيم الديمقراطية وثقافتها من التعددية وتداول السلطة والمواطنة وممارسة السياسة على أرضية وطنية واحترام الحقوق والحريات العامة. فكل هذه المسائل لم تحسمها أدبيات هذه الجماعات وتصوراتها حتى بعد حيازتها السلطة السياسية.

وهناك ملاحظات أساسية حول هذه المسألة، لا تخصّ الحالة المصرية فحسب، إنَّما تنسحب على الحالة العربية ـ الإسلامية بوجه عام، ويمكن ذكرها على النحو التالي:

1 ـ تتعامل الجماعات والتنظيمات الدينية المسيسة مع الدولة باعتبارها "فريضة دينية يتساوى إنكار ضرورتها مع الكفر الذي يحل به القتل"، منطلقة من مقولات وتصورات قديمة تعتبر "الخلافة" ليست مجرد اجتهاد من المسلمين الأوائل، كان يلائم زمانهم بل هي أصل من أصول الإسلام، ولذا فإن إقامتها واجبة، والكفاح من أجلها ضرورة، حتى لو انزلق هذا الكفاح إلى استعمال العنف المفرط ضد بقية المسلمين، ممن ارتضوا بالدولة الوطنية الحديثة، لا سِيَّما ضد المفكرين والمثقفين والساسة التابعين للأحزاب المدنية، الذين يتعاملون مع "الخلافة" بوصفها شكلًا إمبراطوريًّا للحكم، مثلما كان سائدًا في القرون الوسطى ولم تعد إقامته ممكنة، فضلا عن أنها غير مرغوب فيها، لأنها عودة إلى الوراء، والتاريخ لا يسير بظهره.

2 ـ لا تعد مسألة "تديين الدولة" و"دولنة الدين" سهلة، بأي حال من الأحوال، والفصل فيها ليس ببساطة فض نزاع بين دولتين على الحدود، أو بين شركتين على النقود، فمن الصعب إقناع قطاع عريض من الناس بحدود مائزة بين "الدين" و"الدولة"، لا سِيَّما بعد الأفكار التي تم بثها في الرؤوس، والمعاني التي وقرت في النفوس، عن تجربة الرعيل الأول من المسلمين أو "الفترة الكلاسيكية للإسلام"، والذين أُعيدَ صياغة تجربتهم لخدمة المشروع الإمبراطوري الأموي والعباسي والعثماني، بما دمج الدين في الدولة، والدولة في الدين، وجعل المسلمين المعاصرين يتحدثون عن أن تجربة الإسلام، وهم يقصدون في هذا تاريخ المسلمين، غير تجربة المسيحية الغربية، وفي هذا من دون شكٍّ تعمية على الدين لحساب الدنيا، وهروب من مواجهة الحقيقة التي تقول بوضوح إن المسلمين استبدلوا تجربة الرجال الأقدمين منهم بالقرآن وما ينص عليه ويطلبه ويوجبه ويفرضه.

وفي الحقيقة لم تستسلم الحكومات التي تعاقبت على بلدان المسلمين لهذا الدمج، وحاولت طيلة الوقت أن تعين أو ترسم حدودا بين "الدين" و"الدولة"، تحت شعارات من قبيل "لا سياسة في الدين، ولا دين في السياسة" الذي أطلقه الرئيس المصري الراحل أنور السادات، لكنَّ هذه الحكومات كانت مضطرة، في ردها على خطاب ومسلك الجماعات الدينية المسيسة، أن تترك الدين يمتزج بالدولة عند بعض أطرافها، وتقاوم في الوقت نفسه المتطرفين والمتشددين والمُتزمِّتين والتكفيريين الذين لا يرضون عن "دولة الدين" بديلًا.

3 ـ بذلت الجماعات الدينية صاحبة المشروع السياسي، ابتداءً من جماعة الإخوان التي أسست عام 1928، جهدًا مضنيًا، وجاراها بعض الباحثين والمفكرين والكتاب، في سبيل تحديد أُطر وملامح أساسية لما يسمى "النظام السياسي في الإسلام" وتم تأليف آلاف الكتب في الاتجاه، سواء بالحديث فيه مباشرة، أو بطريقة غير مباشرة، وباتت هذه الكتب تُسمم المجال الفكري العام للمسلمين المعاصرين. وعلى مستوى الجهد نفسه تسخر هذه الجماعات جزءًا لا يُستهان به من طاقتها في مقاومة الآراء التي تدحض وجهة نظرهم تلك، ويتم تشويه أصحابها لا روية ولا ورع.

4 ـ استفادت الجماعات والتنظيمات الساعية إلى إقامة "دولة الدين" في تسويغ خطابها الذي يرمي لتحقيق هذا الهدف من إخفاق النخب اليسارية والليبرالية بشتى صنوفها، والتي حكمت البلدان العربية والإسلامية في مرحلة ما بعد رحيل المستعمر، في إقامة "دولة وطنية" راسخة المعالم، تتمع بشرعية قوية، ورضاء جماهيري واسع النطاق، وبات أتباع هذه الجماعات يردُّون على كل من ينتقد خطابهم قائلين: "لقد حكم الليبراليون واليساريون والقوميون وأخفقوا، فامنحونا فرصة، لأن مشروعنا هو الأحق بالاتباع والتطبيق" لكن حين وصل الإخوان إلى الحكم في مصر، اكتشف الناس أنهم لا يملكون سوى أُمْنيات حول الدولة التي يريدون بناءها، وأن مفهوم الدولة الوطنية والمدنية لم يرسخ في أقوالهم وأفعالهم بعد.

5 ـ شكَّلت الجماعات الساعية إلى إقامة "دولة الدين" معضلة حقيقة أمام التطور الديمقراطي في مصر وغيرها، فابتداءً هي لا تؤمن في دخيلة نفسها بالديمقراطية، وإنْ أظهرتْ عكس ذلك في مجاراة لمن حولها ومداراة عن حقيقة أمرها، أو في ظل تحايلها على القوى السياسية والفكرية الأخرى في سبيل دمجها في العملية السياسية والدفاع عنها، لا سِيَّما لدى أصحاب الخطاب الحقوقي.

كما أن وجود هذه الجماعات في الحياة السياسية والاجتماعية أعطى السلطات المتعاقبة فرصة لتوظيفها "فزاعة" للداخل والخارج، وانتهاج القمع، بدءًا من الخطاب وانتهاء بالممارسات ومرورًا بالتشريعات، بدعوى أن هذا هو السبيل الوحيد لمواجهة المتطرفين وقطع الطريق عليهم حتى لا يختطفوا الدولة. وقد أعطت التجربة المصرية الأخيرة دفعة قوية لمثل هذا الخطاب في ظل ما ترتب على التجربة المُزرية للإخوان في الحكم.
نقلا عن مصراوى

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع