قطار الساعة 12 ..!!
نبيل المقدس
الاثنين ١٤ اغسطس ٢٠١٧
نبيل المقدس
عشت أول شبابي في اسيوط كنت أتخذ صوت صفارة القطار الذي يدخل المدينة بديلا لساعة اليد لدرجة انني كنت لا أهتم كثيرا بلبسها عند خروجي خارج المنزل . كان منزلي في أحد الشوارع المتفرعة من الشارع الرئيسي الذي يقع بمحاذاة شريط سكة الحديد .. كان مستوي سكة القطار اعلي من مستوي الشارع الرئيسي بحوالي 4 أمتار .. كان دخول القطار إلي المدينة أوخروجه منظرا رهيبا .. كل المشاة تتمتع بالفرجة عليه حيث كان يمثل لنا فخرا وسعادة أن القطار الرئيسي الذي يربط بين اسوان حتي اسكندرية مارا بالقاهرة يمر بمدينتنا اسيوط ,
أتذكر في صيف 1954 حدث حريق لقطار بضاعة كان يحمل بالات من القطن المصري متجها علي ما اتذكر إلي القاهرة للتصدير .. وبالرغم من طول ارتفاع سكة القطار عن الشارع الرئيسي إلا انه إحتشد المواطنون وتسلقوا هذه الإرتفاع إلي العربات التي لم يصل إليها السنة النار وفكوا السلايب التي كانت تربط البالات بعضها البعض وبدأوا يلقون بالات القطن من أعلي سكة الحديد إلي الشارع الرئيسي .. وجاء بعض الشباب تولوا عملية منع المارة المرور بجوار بالات القطن التي فرشت عرض الشارع لحين عمل طريق في منتهي السرعة ليمر فيها المارة بشرط ان يطفيء سيجارته لو كان مدخنا , كما اشتركوا مع شرطة المرور في تحويل السيارات وعربيات الحنطور إلي شوارع أخري.
حادث القطارين الأخيرين جعلني أتذكر الأماكن التي لا يمكن أي شخص كبير أو صغير ينساها ومنها محطة سكة حديد مصر، أو باب الحديد أو ميدان رمسيس كما يطلق عليها المصريون حتي الأن , بالرغم أنه تم نقل تمثال رمسيس والذي كان اسوء قرار في نظري أتخذته الحكومات السابقة . ومن قراءاتي عن مكان محطة السكة الحديد أندهشت عندما علمت أن موقعها الحالي كان يمر فيه نهر النيل؟!! حتي الأن لم اتصور كبف كان هذا ,, بحثت في المواقع الإلكترونية لكي أري ايجابة علي سؤالي لكن لم أجد .. لكن هي معلومة أحببت أن أنقلها لكم . ومن الطريف أن مكان ميدان رمسيس كان مُختصا بعصر الزيوت، وعرف باسم "باب البحر"، ثم بعد ذلك بـ " باب الحديد " لأنه كان محاطاً ببوابة حديدية. وبرغم زوال تلك البوابة حوالي عام 1798 م، فإن الاسم التصق بالمحطة.
كان ركوب القطار متعة للجميع رغم إستنشاقنا للدخان الخارج من الجرار الأسود أو ما كان يُسمي وقتها بـ الوابور , وأجمل ما كنا نشاهده هو جمال ونظافة جميع المحطات التي يقف عليه القطار ,, فقد كانت كل محطة تتميز بما تشتهر به ,, ولا انسي هؤلاء الحمالين الذين يلبسون بدلة زرقاء وعلي صدره قطعة من النحاس محفور فيها إسمه ورقمه واسم بلدة المحطة التي يعمل عليها , كان يحمل جميع الشنط بطريقة فنية , ويسبق المسافر خارج المحطة وينتطرهُ.
اتأسف جدا عندما اقرأ او اتذكر واقارن حالة سكة الحديد منذ 60 سنة بإمكانياتها البسيطة وحالتها الأن .. كنا نري سائق القطار وبحانبه المساعد و من خلفهما " العطشجي" , يسيرون بخطوة منتظمة و لا يتحادثون مع أحد إلا لمَنْ له عمل يتصل باعمالهم .. كان السائقون يحضرون دورات تدريبية عملية ونظرية .. اما سائقوا اليوم لا تستطيع ان تميز مَنْ هو السائق ومَنْ هو المساعد .. يسيران مع بعضهما البعض يضحكان علي قكاهات سخيغة , ويتأكدان من " شيء لزوم الشيء" موجود معهما . طبعا انا لا أعمم بل اعطي الضوء علي هؤلاء الذين كانوا سببا في تغيير حال سكة الحديد حتي وصل إلي معدل حوادث قطاراتها إلي معدل كبير ,, نتيجة استهتار أغلب القائمين عليها.
كان القطار من الأشياء الحميمة للمصريين فكانوا يحتفون به طرباً بالقطار. فنجد عفاف راضي تتغتي بالقطار في أغنية جميلة، تقول فيها:
"يا وابور الساعة اتناشر يا مقبل ع الصعيد حبيبي قلبه دايب وانت قلبك حديد ".
وكما كان حميما لقلوب المصريين , كان أيضا حميما لقلوب أصغر عامل لأكبر رئيس لها .. كان لنا قريب نزل عندنا في اسيوط لمدة يومين وهو يُعتبر كبير سائقي الصعيد . فقد اتي إلي اسيوط لكي يأخذ تدريبا عمليا و بعض المعلومات عن أحدث جرار نزل الخدمة .. من حبه في العمل كان كل حديثه في القاعدة عن الوابور الأسود , وعن مغامراته معه .. حتي كنا في بعض الأوقات نسأم .
كتب أحدهم في جريدة لها زمن :
استوقفتني داخل المبنى الإداري لمحطة سكة الحديد لوحة من الرخام عليها بضعة أسطر رثاء مؤثرة جاء فيها: «الدكتور المهندس سيد عبد الواحد مدير عام سكك حديد وتلغرافات وتليفونات الحكومة ومدير المواصلات سابقاً توفي على مكتبه مساء الأربعاء 29 أكتوبر 1952 الموافق 10 صفر 1372». يقول أحد العاملين في السكة الحديد أن هذا المهندس ايقونة السكة الحديد .. فقد مات على مكتبه وهو يعمل مساء، فقد كان متيماً بحب محطة السكة الحديد.
اتمني من سيادة الوزير أن لا يجدد ويستحدث هيئة السكة الحديد , ألأ بعد ما ترجع صلة المحبة الحميمة المفقودة بين العاملين بها وبين القطار نفسه , كما كان في الماضي , وهذا يتطلب تغيير بعض التوجهات الدينية التي صَبَغت نفسها علي بعض العاملين , حتي ان البعض إتخذ من كابينة القيادة مكانا للسجود ,, وفي نفس الوقت نجد ايضا المستهترين متخذين القطار وكرا لشرب الشيشة وتعاطي المخدرات , وهنا المشكلة الكبري ... هل تستطيع فعلا أن تنزع الهوس الديني وهوس المزاج وهوس الإستهتار من العاملين معك في هيئة السكة الحديد ,,,؟؟؟
ياااااااه متي أرحع و اسمع عبد الوهاب وهو يتغزل في القطار ويناجيه :
يا وابور قوللي رايح على فين
يا وابور قوللي وسافرت منين
عمال تجري قبلي وبحري
تنزل وادي تطلع كوبري
حود مره وبعدين دوغري
ما تقول يا وابور رايح على فين