الحياة والعمل بأمريكا
منير بشاي
الأحد ٦ اغسطس ٢٠١٧
(من كتاب "رحلة حياتى" تحت الطبع)
بقلم منير بشاى
خفف من روعنا عند وصولنا مطار نيويورك ان نجد فى انتظارنا سيدة مصرية كانت زميلة لمارى فى مصر. وكانت مارى قد ارسلت لها معلومات عن قدومنا ولكن لم نكن متأكدين انها ستنتظرنا. وكانت تعيش مع زوجها وابنهما الصغير بعد وصولهم الى نيويورك قبلنا بشهور. ارشدتنا السيد الى سيدة أمريكية تعتنى بالاطفال لنضع ابنتنا عندها اثناء النهار. ثم عرّفتنا كيف نصل الى وسط البلد بالقطار واين نجد مكاتب التشغيل هناك.
اول نظرة لنا على امريكا كانت صادمة. المساكن فى تلك المنطقة لم تكن جميلة. والجو كان قارس البرودة مع انه كان شهر اكتوبر. وكانت ابنتنا تبكى كلما تركناها مع السيدة. تحمّلنا ونزلنا نبحث عن عمل. وكنا لا نعرف كيف نتصرف وكيف نستعمل المواصلات العامة. كنت كلما وصفوا لى مكانا امشى حتى أصل اليه. وكنت لابسا حذاء من محل "زلط" الشهير بمتانته. وفى الاسبوع الاول استهلكت ذلك الحذاء بالكامل. ملأت عدة طلبات للتوظف وكانوا فى كل مرة يأخذون الطلب يقولون سنتصل بك، وطبعا ننتظر الاتصال دون جدوى. وبعد بحث مضن قررنا ان نقبل اى عمل. وكانت مارى قد بدأت العمل فى مكان لتعليب العطور. ثم ذهبت أنا لمكتب التوظيف فى جامعة نيويورك وعملت امتحانا فى الحساب واللغة وعيّنت كاتبا فى محل بيع الكتب بكلية الطب.
ولكن الظروف بصفة عامة لم تكن ما توقعناه ففكرنا جديا فى الرجوع الى مصر. واتصلنا بعديلى فى لوس انجلوس لنبلغه اننا سنرجع لمصر. وكانت الخطة ان يلحقوا بنا فى نيويورك بعد استقرارنا. فقال لنا ان كل المهاجرين مروا بهذه المرحلة فلا تقلقوا وطلب منا ان نأتى الى لوس انجلوس. وكنا عندما اشترينا التذاكر دفعنا ثمن مسافة اضافية تكفى للرجوع من نيويورك الى مصر اذا لم يعجبنا الحال، وكنت مترددا فى استعمال هذه الاميال الاضافية للسفر الى لوس انجلوس. وعندما قررنا السفر الى لوس انجلوس، كنا بذلك قد حطمنا المركب الذى يمكن ان يأخذنا لمصر، وانتهى النقاش فيما اذا كنا يجب ان نرجع لمصر فهذا الخيار لم يعد متاحا.
الحياة فى لوس انجلوس كانت بهيجة. كان هناك الكثير من ضوء الشمس ودفئها. لم يعد هناك داع للبس المعطف الثقيل او القفاز بل رأينا معظم الناس يلبسون القميص نص الكم. ولكن المقابل لم تكن فرص العمل بالكثرة التى كانت فى نيويورك.
حاولت البحث فى لوس انجلوس عن عمل فى تخصصى ولم أوفق. وفى النهاية قيل لى ان اقبل وظيفة تجميع المنتجات وهى لا تتطلب خبرة ومرتبها كان الحد الادنى للاجور. فعملت بها لمدة اسبوع ولكن لما عرفوا ان لدى مؤهل جامعى انهوا العمل معى لأن مؤهلاتى كانت اعلى من مستوى الوظيفة. واحسست باليأس اننى رضيت بالهم والهم لم يرض بى. اما مارى فعملت بمصنع للملابس الجاهزة بمرتب ضئيل ولكنه يكفى للضروريات.
استمريت شهرين بدون عمل وبعدها قيل لى ان اجرب حظى مع شركة التليفونات وكانت هذه الشركة مصدر الوظائف الرئيسى فى منطقتنا وكانت قريبة من مسكننا. توقفت فى ملء طلب الالتحاق عند سرد سجل تعليمى حتى الثانوية العامة ولم افصح عن مؤهلى الجامعى. وعلمت انهم فى احتياج لامناء مخازن فقدمت على هذه الوظيفة وعملوا امتحانا لى ولواحد من المتقدمين فى ذلك اليوم ونجحت بتفوق وتم اختيارى فوق المتقدم الآخر الذى كان من المواطنين المحليين. وتعجبت كيف يفضلون رجلا اجنبيا على المواطن لأنه افضل منه؟ وعلمت ان هذا امر عادى فى امريكا فقلت فى نفسى بارك الله امريكا.
تعلمت فى وظيفتى الجديدة اشياء لم تكن تخطر لى على بال ومنها قيادة عربات النقل الثقيلة واستعمال الروافع الضخمة وغير ذلك من الامور التى يتطلبها العمل. ولكن بعد عدة سنوات انتقل هذا المخزن الى مكان بعيد. وكان من الصعب ان انتقل معه. ولذلك عرضوا علىّ وظيفة محلية فى المخازن كانت مشكلتها انها وردية الليل فقبلتها وان لم تكن مريحة لانها لم تمكننى من النوم الكافى.
بعد فترة حاولت التقديم على وظيفة نهارية فوجدت وظيفة فى نفس الشركة للرسم الهندسى للخرائط التى تسجل المعدات التى تمتلكها الشركة واماكن وجودها. تعلمت مهارة الرسم الهندسى وعرفت الرموز ومعانيها وتدربت على كيفية تصميم المشروعات الهندسية للشركة.
وهذه الوظيفة ساعدتنى على الالتحاق بالوظيفة التالية. وكان من شروط الوظيفة الجديدة اداء امتحان فى منتهى الصعوبة لدرجة انهم بدأوا من اعلى سلم الاقدمية اى حوالى 35 سنة وهم يمتحنون الموظفين. واستمروا النزول فى الاقدمية الى ان وصلوا لى وكانت اقدميتى مجرد 10 سنوات. استدعيت لاداء الامتحان وكنا حوالى 6 فى ذلك اليوم. وبعد الامتحان كانوا يستدعون كل متقدم ليبلغوه برسوبه ويمضى. ولم يتبق الا انا فاستدعانى الممتحن ليقول لى مبروك نجحت فى الامتحان.
كانت هذه وظيفة هندسة ميدانية وبمرتب مرتفع. واستمريت فيها 15 سنة الى ان قررت الشركة تخفيض عدد الموظفين فعرضت حوافز لمن يتطوعوا لترك الخدمة مبكرا. وكان سنى مجرد 58 سنة ولكن العرض كان سخيا للدرجة اننى قررت قبوله.
اما مارى فقد عملت فى السلك الحكومى المحلى ونجحت ووصلت الى وظيفة رئيس قسم. وقررت هى ايضا الخروج المبكر من الخدمة.
خروجنا المبكر من العمل اتاح لنا فرصة كنت احس انها اكثر اهمية فى حياتنا وهى التفرغ للدفاع الحقوقى عن اقباط مصر. وكان هذا العمل الحقوقى وما يزال تطوعيا بل كنا نصرف عليه من اموالنا. ولكن بركة الرب كانت تعوض ولم نحس يوما بوجود مشكلة مالية. بل ولم نندم يوما على هذا القرار الذى لا نشك ان يد الله كانت تحركه فى الخفاء.