الأقباط متحدون - الهجرة
  • ١٥:٢٠
  • الخميس , ٣ اغسطس ٢٠١٧
English version

الهجرة

منير بشاي

مساحة رأي

٤٧: ٠٥ م +02:00 EET

الخميس ٣ اغسطس ٢٠١٧

الهجرة
الهجرة

 (من كتاب "رحلة حياتى" تحت الطبع)

بقلم منير بشاى 
مع قيام ثورة 23 يوليو 1952 ازدادت احوال مصر المعيشية سوءا.  كانت سياسة عبد الناصر فى التصادم مع الغرب سببا فى فرض حصار اقتصادى مؤلم عليها.  اختفت سلع كثيرة من الاسواق وما كان موجودا ارتفع فى السعر فوق مقدرة المواطن البسيط.  ومع الزيادة المضطردة فى السكان اصبح اقتصاد مصر عاجزا عن ان يشبع البطون الجائعة.  هذا بالاضافة الى ان الحروب الكثيرة التى اشتركت فيها مصر انهكتها واستهلكت مواردها.
 
اضف الى ذلك ان توجهات الثورة المصرية فى اتجاه العروبية والتأسلم قد ضيّق الخناق على المواطنين غير المسلمين.  وكانت مصر فى ذلك الوقت تسكنها جالية كبيرة من الاوربيين واخرى من اليهود بالاضافة الى الاقباط الذين هم ما تبقى من سكان مصر الاصليين.  غادر مصر معظم المصريين الاوروبيين، وتم طرد المصريين اليهود، وبطريقة او اخرى كانت الرسالة التى توجه للاقباط انهم غير مرغوب في وجودهم بمصر.
 
اما رقابة امن الدولة على حياة الناس  فقد ضيقت الحريات بدرجة لا تطاق.  وقد احسست بها انا شخصيا.  ففى يوم من الايام وجد مندوب امن الدولة فى المطبعة نشرة دينية كنت قد ارسلتها لهم للطباعة.  اعتبروها مجلة بدون ترخيص واستدعونى للتحقيق واخذوا منى كل ما يتعلق بى من معلومات.  وقبل ان يطلقوا سراحى قال لى الضابط "الوطن يناديك يا استاذ منير!" فقلت له "وانا فى خدمة الوطن".  كان طلبه ان اتجسس على الكنائس وارسل له تقريرا دوريا عن ما يجرى داخلها.  ثم هددنى ان وصلته المعلومات عن غير طريقى سيكون موقفى معه غير طيب.  رددت عليه "ربنا يعمل ما فيه الخير".  وكانت هذه طريقتى فى رفض طلبه دون ان اسبب لنفسى مشاكل. وطبعا لم اقدم له ما يريد.  ولكن هذا زاد من احساسى بالتهديد وبدأت افكر جديا فى ترك مصر.
 
فتحت مصر ابوابها لمن يريد الهجرة.  ولم تكن فكرة الهجرة قبلا تستهوينى ولكن مع سوء الاحوال وتقديم الكثيرين على الهجرة ممن كنت اعرفهم ذهبت وقدمت طلبات هجرة فى سفارات كندا واستراليا وامريكا.  وقلت فى نفسى انها مجرد ورقة قدمتها وليس هناك ما يلزمنى بالاستمرار فى الاجراءات.  ولكن جاء الرد من البلاد الثلاثة بالموافقة المبدأية وابتدأت احس ان الموضوع يأخذ نهجا جادا لم يكن فى الحسبان.
 
قررنا التركيز على امريكا وتحدد لنا موعد للمقابلة مع السفيرة كآخر خطوة للموافقة النهائية.  كانت السفيرة جافة فى كلامها معى وفى المقابل كنت انا بمثل الطريقة.  فى قرارة نفسى كنت اتمنى ان يرفض طلبنا وبذلك يكون وقف الهجرة قد جاء رغما عنى حتى لا ألوم نفسى فى يوم من الايام.  ولكن يبدو ان عزة النفس اضافت الى رصيدى عند السفيرة فقررت الموافقة على هجرتنا.
 
تلاحقت الحوادث بسرعة من تقديم الاستقالة وصرف مكافأة نهاية الخدمة ثم بيع ما استطعنا من الاثاث وشراء تذاكر الطيران.  وكانت اكبر مشكلة واجهتنا هى رد الفعل عند اسرتى وخاصة امى.  وقبل سفرنا بيومين سافرنا الى الاسكندرية لنودع امى.  كانت أمى تبكى وتقول "مش هشوف وشك تانى يا ولدى". ردا على هذا قالت لها ابنتنا البالغة من العمر سنتين وشهرين "إحنا هنيجى تانى!". وهى طبعا غير مدركة لما يجرى، وان كانت نبؤتها قد تحققت عندما رجعنا للزيارة الاولى بعد 5 سنوات من سفرنا وتممنا الوعد الذى اطلقته ابنتى دون ان تدرى.
 
 وكانت الليلة السابقة لسفرنا اشبه بجنازة بين الباكين والمعزين ومن سيذهبون الى مثواهم الاخير وهم انا وزوجتى مارى وابنتنا. 
 
وعندما دخلنا الطائرة فى طريقنا للعالم الجديد كانت هذه اول مرة نركب فيها الطائرة فى حياتنا.  كانت مارى تبكى وكانت المضيفة تهدىء من روعها وتقول لها ان لا تحزن وتطمئنها انها ستكون افضل حالا.  اما انا فكنت فى ذهول لان الحوادث تتابعت فى سرعة وكنت لا اعلم اذا كانت هذه حقيقة ام مجرد كابوس مزعج.
 
توقفنا فى المانيا الشرقية لرؤية اخى واسرته الذى كان فى بعثة علمية للتحضير للدكتوراة ثم عبرنا من برلين الشرقية الى برلين الغربية وهناك اخذنا الطائرة الى لندن حيث مكثنا ليلة فى لندن جزنا فيها باختبار مزعج.
 
سلمنا الحقائب للامانات حتى لا تثقلنا فى حركتنا.  وقيل لنا ان نأخذ اتوبيسا الى محطة فى وسط البلد ومن هناك نأخذ تاكسى الى الفندق.  بعد وصولنا الى نهاية مسار الاتوبيس فى وسط لندن قادونا الى مكان استراحة وهناك بحثت عن مظروف كان به الاوراق الهامة التى تلزمنا لدخول امريكا، وقيل لنا ان نمسكه فى ايدينا طوال الوقت ولا نضعه فى الحقائب لئلا يضيع.  بحثت عن المظروف الهام فلم اجده.  وتذكرت اننى وضعته جانبا بينما كنت اسلم الحقائب للامانات.  اخذت اسأل الناس حولى كيف اذهب للمطار فقالوا لى اي بوابة فى المطار؟ وكنت لا اعرف ان المطار به اكثر من بوابة.  وبعد ان وصفت لهم الامر استطاعوا ان يدلونى بصعوبة.
 
رجعت للمطار بمفردى ووجدت المظروف المهم.  ثم سألت كيف اعود الى وسط البلد لألتقى بزوجتى وابنتى اللذين تركتهما فقالوا لى اى وسط البلد؟ ولم اعرف الاجابة على هذا السؤال ولكن بعد جهد مضنى قالوا لى ان آخذ اتوبيسا معينا واذا لم اجدهم هناك آخذ اتوبيسا آخرا.  وكانت فرحتى لا توصف عندما وجدتهما فى النهاية.
 
استقلينا الطائرة فى آخر وصلة لنا فى طريقنا للعالم الجديد.  وكنت ما ازال اسأل نفسى ما اذا كنت فى حلم ام علم.  وكنت اتساءل ماذا سيحدث عندما نصل؟ اين سنتعشى؟ واين سنبيت الليلة القادمة؟ وكيف سنتصرف مع ابنتنا؟  واين سنبحث عن عمل؟ واين سنعيش؟  وكيف سنعول انفسنا ولم يكن فى جيوبنا غير اربع ورقات من فئة المائة دولار وهى كل ما صرحوا لنا بتحويله.
 
كانت افكارا محيّرة ظهرت فجأة فى ذهن عائلة عديمة الخبرة وجدت نفسها فى امريكا وكأنها امام محيط عميق وهى لا تجيد السباحة.  ولكن عندما يعجز الانسان يظهر الله ليقود الطريق.
Mounir.bishay@sbcglobal.net
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع