الأقباط متحدون - عودة الماضي (2): برسوم يبحث عن وظيفة
أخر تحديث ١٣:٥٤ | الجمعة ١٨ مارس ٢٠١١ | ٩ برمهات ١٧٢٧ ش | العدد ٢٣٣٦ السنة السادسة
إغلاق تصغير

عودة الماضي (2): "برسوم يبحث عن وظيفة"


بقلم: هند مختار
توقفت في المرة السابقة عند فيلم "برسوم يبحث عن وظيفة" للمخرج والمؤلف والمصوِّر "محمد بيومي"- أول رائد للسينما في "مصر"- وكان لديَّ مجموعة من الكتب المتفرقة التي تتحدث في بعض فصول منها عن "محمد بيومي" وإنجازته في تاريخ السينما، منها كتاب "فجر السينما في مصر" لـ"محمود علي"، وكتاب "تاريخ السينما في مصر" لـ"أحمد الحضري"، ولكن كأن القدر يريد إنصاف "محمد بيومي" في هذا الزمان بعدما ظُلم في زمانه، فقد وقع تحت يدي كتاب "محمد بيومي الرائد الأول للسينما المصرية" للمؤلف "محمد كامل القليوبي"، ليؤكِّد بعض المعلومات التي وردت في المقال السابق، وينفي بعضها بالحجة والبرهان، وليضيف لنا معلومات جديدة عن "محمد بيومي"، تؤكِّد تفرُّد الرجل في زمانه، ليس فقط على المستوى الفني بل على المستوى العسكري والإنساني أيضًا..

فكما ذكرت المرة السابقة، إن "محمد بيومي" من مواليد "طنطا"، ولكن بالتحديد في 3 يناير سنة 1894 وليس سنة 1893 كما ذكر "أحمد الحضري"، وقد أنجز دراسته الإبتدائية سنة 1911، والتحق بالحزب الوطني الذي أسَّسه "مصطفى كامل"، وقرأ كتاباته كلها، والتي تركِّز على المباديء الوطنية والنقمة على الاحتلال، والتحق سنة 1911 بمدرسة "المجيبة" الثانوية، ثم بالقسم الداخلي بمدرسة "المساعي المشكورة" بـ"شبين الكوم"، ليقطع هذه الرحلة فجأة ويلتحق بالكلية الحربية في أكتوبر سنة 1912..

صُعق "محمد بيومي"، حيث وجد أن الدراسة لا تكرِّس لبناء جيش وطني بل تكرِّس لتأكيد الاحساس بالدونية أمام المستعمر! وعن خيبة أمله في هذا، ألف كتابًا عن مذكراته بالكلية الحربية بعنوان "بالشريط الأحمر– الجيش المصري في عهد الاحتلال البريطاني"، واستخدم الأجزجال والكاريكاتير ليعبِّر عن وجهة نظره، إلى جانب وصفه للحياة في المدرسة الحربية..

تخرَّج "بيومي" في المدرسة الحربية سنة 1915، ومُنح رتبة ملازم ثان وأُلحق بالأورطة الرابة بيادة التي تم ترحيلها لـ"السودان" في أبريل 1915..

وفي "السودان"، بدأ "بيومي" أول معاركه في الجيش ضد الاحتلال، حيث رفض التطوُّع شبه الإجباري في حملة "الدردنيل"، وقاد أيضًا معركة العمامة، حيث أن الجيش البريطاني أراد أن يرتدي الضباط والجنود المصريين عمامة بدلًا من الطربوش كالقوات الهندية، بحيث يظهر الجيش المصري بصورة المحتل الذي يحارب في صفوف الإنجليز، ورفض "بيومي" تلك الفكرة، وكادت تلك المعركة أن تدخل في نطاق العصيان العام. وخوفًا من وقوعه، اضطرت الإدارة البريطانية للتراجع عن القرار..

تاريخ "محمد بيومي" العسكري طويل، ولن تسعه تلك المساحة، ولهذا سوف أقفز فوقه للدخول لتاريخه الفني، وهو الأهم هنا..

أُحيل "بيومي" على نظام الاستيداع في "أبريل" سنة 1918، وقامت بعد ذلك ثورة 1919 فيأيدها، وتبرَّع للوفد المصري بمبلغ (20) جنيهًا، وأصدر مجلة اسمها "المقص"، على هيئة كتاب ليهرب من قانون المطبوعات. ومع ثورة 1919 يبدو أن "بيومي" تفرَّغ للفن، فقد أسَّس مع صديقه "بشارة واكيم" فرقة مسرحية بعنوان "وادي النيل"، قدَّمت عروضًا على مسرح "رشيد" بـ"الإسكندرية"، واشتركت معهما الممثِّلة الناشئة آنذاك "ماري منيب"..

وعلى نحو مفاجيء، ترك "بيومي" كل شيء ورائه ليرحل إلى أوروبا، وعلى حد قوله في مذكراته: "لم تكن لي وجهة خاصة ولا غرض محدد، وكانت كل أفكاري وحواسي متَّجهة إلى شيء غريب.. شيء مجهول أريد أن أضيفه إلى ما عرفت".

ذهب "بيومي" إلى مدينة "تريستا" في "إيطاليا"، ولا يفعل شيئًا، ثم ذهب إلى "فيينا" بـ"النمسا"، وكان يحيا حياة المترفين؛ فقد كانت الحياة في أوروبا قاسية، حيث كانت لاتزال تعاني من أوجاع ما بعد الحرب العالمية الأولى، وكان "بيومي" من عائلة ثرية، وضابط سابق محال للاستيداع، فكان معاشه يساوي ثروة بمقاييس تلك الأيام..

وهناك التقى بزوجته "شارلوت يوسف كرالوفيتش" وتزوجها، وهي ابنة أحد النبلاء. وعاد "بيومي" إلى "مصر" مع زوجته وابنه الصغير "محمد يوسف"- وليس "أحمد" كما جاء في كتاب "أحمد الحضري"- وكان قد صنع كل شيء بيديه، بدءًا من أحذية زوجته وملابسها حتى موبيليا المنزل..

عاد "بيومي" إلى أوروبا بعد عام لغرض محدَّد هذه المرة وهو "السينما".. كانت إقامته في "برلين"، وركَّز كل همه لدراسة الجانب الصناعي في السينما، فالتحق بشركة "جلوريا فيلم" كممثِّل للأدوار الثانوية بمرتب يساوي (15) قرشًا في اليوم، وهو مبلغ كبير بمقاييس ذلك الزمان.. وارتقى "بيومي" في التمثيل حتى زاد أجره عشرة قروش دفعة واحدة، ولكنه ترك التمثيل ليعمل وراء الكاميرا كمساعد مصوِّر، ثم التقى بالمصوِّر الألماني الكبير "بارنجر" الذي ساعده في شراء المعدات اللازمة لتأسيس ستوديو سينمائي صغير في "مصر"، ليعود "بيومي" سنة 1923 إلى "مصر" بعد حصوله على عضوية اتحاد السينمائيين المحترفين بـ"النمسا"، وليؤسِّس أول ستوديو سينمائي مصري باسم "آمون فيلم" في 19 شارع الخلفاوي بحي "شبرا"، والذي أصبح اسمه الآن شارع المستشفى..

في عجالة، أشير إلى أن "محمد بيومي" التقى بـ"طلعت حرب" عارضًا عليه أن يقوم بتصوير فيلم عن مراحل إنشاء مبنى "بنك مصر الجديد"، وقد رحَّب "طلعت حرب باشا" بهذا الاقتراح، ومن هنا بدأت علاقة بنك مصر بالسينما، وقد أقنع "بيومي" "طلعت حرب" بأن يؤسِّس قسم للسينما يتبع شركة إعلانات مصر، وبالفعل تأسَّس ذلك تحت اسم "مصر فيلم"..

حدثت عدة خلافات بين "حرب" و"بيومي"، انتهت بعدها بسنوات بأن نسب "حرب" لنفسه فكرة تأسيس "ستوديو مصر"، وهي من نتاج أفكار ومجهودات "بيومي"، فيستأصل بعد هذه الخلافات في فبراير سنة 1926، تاركًا شركة "مصر للتمثيل والسينما"..

بعد هذه الفترة، ذهب إلى "الإسكندرية" وحاول عمل فيلم بعنوان "الضحية"، عن قصة "إحسان صبري" ومن إنتاجها وتمثيلها، ولم يكتمل الفيلم بسبب قصة الحب التي نشأت بينها وبين الممثل "حسني بك إيراهيم"- بطل الفيلم- فتزوجته ولم يكملا الفيلم.. ثم أسَّس "بيومي" بعد ذلك ستوديو "بيومي فوتو فيلم" للتصوير الفوتوغرافي..

"محمد بيومي" أيضًا هو أول من فكَّر في إنشاء معهد للسينما في "مصر"، وكانت الدراسة فيه مجانية وقائمة على التبرعات. وقد تبرَّعت "سينما ركس" بأجر إحدى الحفلات، وبالفعل نجحت الفكرة لفترة، وصوَّر في تلك الآونة فيلمًا عن نقل أعمدة مسجد المرسي أبو العباس، وفيلمًا آخر بعنوان "الخطيب نمرة 13"، وأغلق المعهد أبوابه سنة 1934..

كان "بيومي" أيضًا فنانًا تشكيليًا من الطراز الرفيع، ولم يتوقَّف عن الرسم لحظة، حتى في أواخر أيامه بعد أن ضعف بصره..

وتوفى "بيومي" سنة 1936 في الخامس عشر من يوليو..

هنا اختصرتُ كثيرًا من المحطات في حياة "بيومي"، مثل علاقته بالثورة المصرية، وسفره لأوروبا لآخر مرة، وأتوقف عند فيلم "برسوم يبحث عن وظيفة"..

يضع "برسوم" المسيحي لافتة على باب منزله، مكتوب عليها "بني آدم للإيجار ولو باللقمة"، ويتسلَّل لمنزل "برسوم" طفل جائع يسرق الرغيف الوحيد الموجود عند "برسوم"، ويقابل الطفل الشيخ "متولي" الذي يعنِّف الطفل على السرقة ويأخذ منه الرغيف ليأكله هو، لأنه جائع أيضًا، ويُكتب أثناء عرض الفيلم (لأنه فيلم صامت) "لكي يتغلب الشيخ على جوعه يقضي الشيخ وقته في مطالعة الصحف"، ثم في تعليق آخر "حيث إنها لا تكلِّفه شيئًا، حيث يلتقط الصحف التي تُلقى على الطريق".

يصحو "برسوم" ليؤدِّي الصلاة أمام صورتي "العذراء" و"سعد زغلول"، حيث رسم على الحائط الهلال مع الصليب متعانقان، وبعد الصلاة يبحث "برسوم" عن رغيفه فلا يجده..

يسخر الشيخ "متولي" الجائع من "برسوم" العاطل مثله، بإدعاء وجود وظيفة له، ثم يتسابق الاثنان للحصول عليها، فيجدا شخصًا آخر حصل عليها، ويخطيء مدير البنك فيعتقد إنهما عميلان ويدعوهما للغداء، ويأكلان بنَهَم حتى اكتشف أمرهما وطردهما في قارعة الطريق، وأمسكهما الشرطي باعتبارهما متشردان..

 لا يمكن التمييز بين "برسوم" المسيحي الذي قام بدوره ممثل مسلم، والشيخ الذي قام ببطولته ممثِّل مسيحي- "بشارة واكيم"- فالاثنان متشابهان في الجوع، والبطالة، وفي طريقة تعامل الشرطي معهما.. هذا الفيلم إنتاج سنة 1923.. ولا تعليق!!


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter