عشت الزمن الجميل .. بجمالهِ وقُبْحِهِ .. !!
نبيل المقدس
٢١:
٠٩
ص +02:00 EET
الاثنين ٣١ يوليو ٢٠١٧
نبيل المقدس
كان لي الحظ ان أعيش صبايا ومرحلة الفتونة والشباب والرجولة في الزمن الذي تميّز بالزمن الجميل , هذا الزمن لم يكن جميلا من وحده .. بل كل مَنْ عاش في هذا الزمن كان له الفضل العظيم بأن تصبح هذه الفترة من حياة وعمر مصر جميلا .. لم أعلم حتي الأن كيف إتفقت صفات الناس في ملامح واحدة مهما إختلفوا في مستوي المعيشة أو النوع أو العقيدة . لكن علي ما أتصور أن هذا الإتفاق في الصفات كانت تقارب الطبقات الإجتماعية , نتيجة السياسة الإشتراكية وهو تعبير أكثر تهذيبا من كلمة الشيوعية , والتي إتخذها عبد الناصر منهجا للحكم.. وفي تصوري كان هذا النهج هو الخطوة الأولي في تدهور منظومة الإقتصاد .
بداية هذا الزمن الجميل إنطلقت بعد إنطلاق أغنية " علي الدوار .. علي الدوار .. راديو العمدة فيه أخبار" . نعم كنا نعيش في سلام وأمان طالما لا نتكلم عن سياسة رجال حركة الجيش .. كنا لا نعرف كلمة ثورة الشعب ,, وعلي ما اتذكر قضينا سنتين ونحن نعلم ان الجيش قام بحركة وطنية شعبية ضد الملك الفاسد , وأننا كنا في مهانة تحت حكم ملكي ظالم .. وكنا كشعب نصيح ونهتف عندما نسمع أن الملكية ظلمت الفلاح والعمال , وأن حركة الظباط الأحرار سوف تقضي علي هذا الظلم و الفساد الإداري , سمعنا هذه الشعارات كثيرا حتي يومنا هذا ولم يحدث أي تغيير في الفساد , بل يزداد بعد كل مرحلة أضعاف الأضعاف .. حتي اصبحت كلمة الفساد متصلة دائما بكلمة مصر , ومصر منها براء.
في أيام هذا الزمن كان قدر مصرألمرور في حروب ثلاث ,, وكان المطلوب مننا أن نشد الحزام .. وفعلا شددنا الحزام لمدة 18 سنة تقريبا , لبناء مقومات الجيش , وتقوية مقومات البلد بقدر الإمكان .. والوقوف بجدية لإتمام مشروع السد العالي .. ومع كل هذا لم نهتز أونمتلىء باليأس والقنوط .. هذا الزمن تميّز بالفأل ..فكان عنصرا هاما جعَـلَ من هذا الزمن جميلا .. بالرغم من معاناة الناس في وقوف بالساعاتفي طوابيرالجمعيات الإستهلاكية للحصول علي التموين ولحمةالجمعية وفراخها , حتي اصبحت الطوابير مشهدا عاديا ومألوفا للجميع .. وشر البلية ما يُضحك أنه إنبثقت من بين الطوابير مهنة أخذت شكلها القانوني عرفية .. هذه المهنة هي مهنة " الدلالة" .. وكانت تجمع بعض المؤن من الجمعيات بالإتفاق مع بعض موظفي الجمعيات , وتمر علي الطبقات الإجتماعية التي لم تقبل ألإنتظار في طوابير الجمعيات , لتبيع لها هذه المؤن بمبالغ أكثر لزوم " المعلوم " .
كان الشعب المصري واع ويحب بلده ولا يرضي ابدا أن يراها دولة فاسدة .. فكانت ظاهرة إستبدال اللحم الضاني ياللحم الجملي .. وبالنسبة لاقباط مصر كانوا يشترون لحوم الخنازير , كانت ظاهرة فيها مشاعر الوطنية .. لم يقبل الشعب ان يضع نفسه تحت رحمة شد الحزام .. بل كان دائما يجد البديل الإيجابي .. لم يأن , لم يشكي , لم ييأس . حتي في الأمور الإجتماعية .. فقد كانت هذه المرحلة هي مرحلة الإبداع الفني بجميع أنواعه .. ترك الشعب الذي ادهش العالم وذهب إلي حياة " الـ ضحك وجد ولعب وحب " .. كان الشعب المصري عبقريا في كيفية الغلبة علي الفقر والجوع والبطالة ..
أما حياة الشباب , فكانت قمة الروعة .. ثقافة , علما , وخُلقا . لم تهزه ما كانت تلبسه الفتاة .. لم ينبهر الشاب ولسانه يتدلي من فمه لمجرد زميلة معه مدت يديها لتصافحه . كانت حياة الجامعة من أنظف واطهر فترة يعيشها شباب الجامعة .. عاش الشباب والشابات في خلق عمالقة الفن والعلم .. كان الدكتور مجدي يعقوب إبن من أبناء هذا الزمن .. ولا ننسي العالم الدكتور زويل صاحب جائزة نوبل في العلوم الفيزيائية كان ايضا ابن هذا الزمن . كثرت الرحلات إلي بلدان السواحل حيث كانت هذه الرحلات تحت إشراف اساتذة ومعيدي الكليات .. فعلا لم تمر هذه الرحلات مر الكرام علي فنان الأغنية مرسي جميل عزيز ومطرب مصر الأول في هذا الوقت عبد الحليم حافظ والملحن خفيف الدم منير مراد أن يصفوا بالظبط حالة فرح الشباب والشابات , وخصوصا هؤلاء الفنانون كانوا في عمر الشباب. قأخرجوا لنا " دقـّواالشّماسيعالبلاج ..دقـّواالشّماسي .. دقـّواالشّماسيمالضّحيلحدالتـّماسي ....." .
من الأشياء الجميلة التي حواها هذا الزمن الجميل .. هو الحب الذي كان يربط بين الشاب والشابة في ظل الظروف الإقتصادية الصعبة في هذا الزمن الجميل .. لكن من عبقرية هذا الشعب هو ان أهلي الشاب والشابة لا يتدخلا في كيفية تجهيز العروسين .. كانا يتركان ابنائهما يتصرفا بانفسهما في ترتيبات الزواج . كان الشاب والشابة يعملان ليل نهار لكي يوفرا مقدم الشقة والذي كان يصل تقريبا إلي 150 حنيها وقيمة الإيجار الشهري يبلغ تقريبا 12 جنيها .. هذه الأرقام كانت أرقام خيالية .. وكانت مشكلة السكن صعبة لأن المساكن نفسها نادرة , فكان المعروض دائما قليل عكس ايامنا هذه , كان العثور علي سكن هو أكبر إنجاز في تجهيز عش الزوجية .. والأهم من كل هذا , كان كثيرا من العائلات يسمحن ان يستقبلن العروسين في منزلها حتي يتم تجهيز العفش , وخصوصا كان العفش " عمولة" علي يد نجار من طرف إحدي العائلتين حسب الإتفاق , فقد كان من العار في هذا الزمن أن يتم جهاز العروسة من محلات الموبيلية .
اما الوجهة الوطنية .. كانت في قمة الحماس والتفاعل , مختلطة نوعا ما بالأمر الواقع .. فقد كانت الأحداث السياسية بطيئة , لكن هذا البطيء إتضح انه كان مقصودا كتمويه لمعركة العبور .. وقامت حرب اكتوبر وكان النصر لمصر بفضل شجاعة الجيش وصمود الشعب والسياسة الماكرة والتمويهية للسادات ..!
وبناء علي هذا النجاح رددنا مع شادية " عبرنا الهزيمة يامصر يا عظيمة " لكن للأسف الشديد كان هذا النشيد وأمثاله من الأناشيد ألأخري هو إعلان لنهاية الزمن الجميل ..بلا عودة .. حيث إنفتح الباب للإسلاميين المتطرفين , بالإضافة إلي سياسة الإنفتاح التي كانت الخطوة الأولي في تدهور إقتصاد مصر . فقد كانت هذه السياسة مُجدية لفئة من الناس .. وخلقت طبقة جديدة شرسة لا ترحم ... مما جعلنا مازلنا شادين الحزام حول بطوننا حتي لحظة كتابة هذا المقال.