الأقباط متحدون - هل حقاً كان العهد الملكي ديمقراطياً، واعداً ومستقراً؟
  • ٠٩:٠٢
  • الأحد , ٢٣ يوليو ٢٠١٧
English version

هل حقاً كان العهد الملكي ديمقراطياً، واعداً ومستقراً؟

د. عبد الخالق حسين

مساحة رأي

١٨: ١٠ ص +02:00 EET

الأحد ٢٣ يوليو ٢٠١٧

صور_أرشيفية
صور_أرشيفية
د.عبدالخالق حسين
 
في مثل هذا شهر (تموز/يوليو)، من كل عام، ينشغل العراقيون بذكرى ثورة 14 تموز 1958، فمنهم (وبينهم كاتب هذه السطور)، يراها ثورة وطنية تقدمية حتمية، لم يكن منها بد، فجرتها ظروف موضوعية تطلبت تحولات في البنية السياسية الفوقية (السلطة)، لتتلاءم مع التحولات التي حصلت في البنية التحتية الاجتماعية، ولانتفاء الوسائل السلمية الديمقراطية لتحقيق التحولات المطلوبة، وتوافر لها الظروف الموضوعية والعوامل الذاتية (القيادة)، حصل التغيير بالعنف الدموي وما رافق ذلك من هزات عنيفة واضطرابات خطيرة في المجتمع، بغض النظر عن النتائج. 
 
الكلام أعلاه ذكرته في مقالي السابق الموسوم: (تعقيب على مقال السيد بهاء الدين نوري عن ثورة 14 تموز)(1)، اضطررت لإعادته هنا للرد على مجموعة أخرى من الكتّاب يرون أن ما حصل يوم 14 تموز 1958، كان مجرد إنقلاب عسكري مشؤوم، فتح الباب للانقلابات العسكرية وحكم العسكر، قادوا العراق إلى هذا المصير الأسود. ومن هؤلاء السيد مازن الشيخ الذي نشر مقالاً في موقع صوت العراق، بعنوان: (تعقيباً على مقال الأستاذ عدنان حسين أقول: 14 تموز انجبت 17 تموز)(2 و3). فهو الآخر ينحي باللائمة على هذه الثورة اليتيمة، وقائدها في كل ما أصاب العراق من كوارث، منذ 8 شباط 1963 وإلى الآن. 
 
يقول السيد الشيخ: "... يمكن التأكيد بأن العراق كان يمكن ان تكون افضل دول المنطقة وأكثرها رقيا وتقدماً لولا الانقلاب العسكري الذي وقع في 14 تموز 1958 و اطاح بالدولة الواعدة وتركها تواجه كل انواع المخاطر والمصائب". 
 
هذا الكلام قد يكون صحيحاً فيما إذا كان التاريخ يسير وفق ما يتمناه البعض من ذوي النوايا الحسنة، ولكن كما تفيد الحكمة (تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن). فمسار التاريخ له قوانينه الخاصة التي تشبه القوانين الفيزيائية، إذ كما ذكرنا مراراً، أن الثورات لا تصاغ حسب الطلب، بل تحدث، وهي أشبه بالكوارث الطبيعية. والمسؤول عنها هم أولئك الحكام الذين يرفضون إجراء التغيير التدريجي الهادئ في السلطة ليتلاءم مع التحولات الاجتماعية. وكغيره من أنصار الملكية، يعتقد السيد الشيخ، أن الذين أيدوا، ومازالوا يدافعون عن "إنقلاب 14 تموز" حسب تعبيره، هم اليساريون فقط، ويقصد الشيوعيين، وينكر أن النظام الملكي قد جمد ورفض التطور، وحصل بون شاسع بين الشعب والسلطة، أقتضى التغيير الثوري.
 
فالنظام الملكي الذي هيمن عليه الثنائي، عبدالإله ونوري السعيد، أصابه الجمود الكلي، وفي هذا الخصوص قال الشيخ علي الشرقي وهو من رجالات العهد الملكي: "أن نوري السعيد أصر على حكم العراق في الخمسينات بعقلية العشرينات". وقال عنه الصحفي البريطاني بول جونسن عام 1957: " إن نوري السعيد، وإن كان ما يزال حياً، فهو أشبه بالمخلفات التاريخية البالية." كما ونشير على أنصار الملكية أن يقرؤوا مذكرات المرحوم عبدالكريم الأزري، وكتابه القيم (مشكلة الحكم في العراق)، و الذي حذر الثنائي عبدالإله، ونوري السعيد مراراً، إذا لم يقوموا بإصلاحات سياسية فإنهم يحثون الخطى لهدم البيت على رؤوس الجميع. ولكن لا حياة لمن تنادي... إلى أن حصل "الإنقلاب المشؤوم".
 
ونحن نؤكد هنا و باعتراف أكاديميين أجانب مثل حنا بطاطو، أن ما حدث يوم 14 تموز 1958 كان ثورة بكل معنى الكلمة. ويقول المستشرق الفرنسي مكسيم رودنسون: "أن الثورة العراقية هي الثورة الوحيدة في البلاد العربية". راجع مقالنا: (هل ما حدث يوم 14 تموز ثورة أَم انقلاب؟)(4)
 
إن أقصر رد على السيد الكاتب هو: إذا كانت ثورة 14 تموز أنجبت إنقلاب 8 شباط 1963، والأخير أنجب انقلاب عبدالسلام عارف على البعثيين في تشرين من نفس العام، وهذا الانقلاب أنجب 17 تموز 1968...الخ، يعني أشبه بـ(دومينو رالي!!)، فبنفس المنطق يصح القول أن العهد الملكي هو الذي انجب ثورة 14 تموز 1958، وعليه كان الأفضل البقاء على الحكم العثماني (العصملّي!!)، لأن كل مرحلة تنمو في رحم المرحلة السابقة إلى أن نصل إلى أبينا آدم. في الحقيقة لو كان العهد الملكي واعداً، ومستقراً وديمقراطياً كما يردد أنصاره، لما حصلت ثورة تموز التي كانت حصيلة سلسلة متواصلة من الانتفاضات والوثبات الشعبية، والانقلابات العسكرية في العهد الملكي، تكللت بثورة تموز التي كانت تتويجاً لتلك النضالات. 
 
كما ونؤكد لهؤلاء السادة، أنه من الهراء والجهل القول أن ثورة تموز فتحت الباب للانقلابات العسكرية، فقد حصل في العهد الملكي ثمانية انقلابات عسكرية بعضها نجح مثل انقلاب الفريق بكر صدقي عام 1936، وهو بالمناسبة، أول إنقلاب عسكري في البلاد العربية، وما تلاه من انقلابات أخرى مثل انقلاب الأول من مايس 1941 الذي قام به العقداء الأربعة بقيادة صلاح الدين الصباغ، وسمي خطأً بحركة رشيد عالي الكيلاني، والذي انتهى بالاحتلال البريطاني الثاني للعراق في نفس العام...الخ.
أما تهمة أن ثورة 14 تموز فتحت الباب لحكم العسكر، فهي الأخرى باطلة، لأن معظم الذين أسسوا الدولة العراقية كانوا جنرالات في الجيش العثماني، وأن نوري السعيد نفسه الذي تسنم رئاسة الحكومة 14 مرة كان جنرالاً. علماً بأن 50% من فترة العهد الملكي كانت في حالة الحكم العرفي العسكري.
 
لذلك فالذي يتهم ثورة تموز بفتحه باب الانقلابات العسكرية، وحكم العسكر وعدم الإستقرار، يفضح جهله بتاريخ العراق، وهذا أمر معيب على كل من يكتب عن العراق وهو لم يدرس تاريخه، وخاصة تاريخه الحديث.
 
أما الذين يتحدثون عن "عبقرية" نوري السعيد وديمقراطيته الليبرالية، فيكفي أن نذكِّرهم بحادثة واحدة فقط على سبيل المثال لا الحصر، وهي في عام 1954 أجرت حكومة أرشد العمري انتخابات برلمانية، ورغم الضغوط الحكومية على الناخبين، ومحاولات تزييف النتائج، فازت أحزاب المعارضة الوطنية بـ 11 مقعدا من مجموع 131 مقعد، فلم يتحمل "الديمقراطي جداً" نوري السعيد هذا العدد القليل من نواب المعارضة، لذلك قام بعد يوم واحد فقط من خطاب العرش، بانقلاب القصر على زميله أرشد العمري، وعطَّل البرلمان، وشكل الحكومة برئاسته، وأعلن الأحكام العرفية. هكذا كانت "الدولة الواعدة" التي يدافع عنها السيد الشيخ وزملاؤه. 
 
وفي هذا الصدد قال الراحل العلامة علي الوردي: "روى لي أحد الثقاة قصة تكاد لا تصدق لو رويت في بلد غير هذا البلد. يقول الراوي: إنه سمع ذات يوم، في موسم من مواسم الانتخابات الغابرة، بأن برقية هبطت على متصرف اللواء من بغداد تأمره بانتخاب شخص معين. وقد ذهب هو وجماعة معه لتهنئة الشخص المحظوظ، فقبل الشخص منهم التهنئة. هذا مع العلم أن يوم الانتخابات الرسمي لم يكن قد حان وقته، وأن الاستعداد للانتخابات كان قائماً على قدم وساق كما يقولون.". 
ويعلق الوردي على ذلك قائلاً: "إن نائباً يُعيًن في مجلس النواب على هذه الصورة لا يشعر طبعاً بأنه ممثل الشعب، والشعب كذلك لا يشعر بأن في الحكومة من ينطق باسمه ويدافع عنه حقاً..  على هذا المنوال تتسع الثغرة بين الشعب والحكومة وينشق الضمير والأمر لله الواحد القهار."
وقد أيد هذه الرواية المرحوم أحمد مختار بابان في مذكراته، أنه هو الذي كان متصرفاً في لواء البصرة والذي شكل الوفد لتقديم التهنئة لذلك النائب العتيد. 
 
ومن كل ما تقدم، نؤكد للسيد مازن الشيخ الذي اعتبر اليساريين وحدهم دون غيرهم، انتقدوا العهد الملكي بدون برهان، أن الشيخ علي الشرقي، وعلي الوردي، وعبدالكريم الأزري (وزير في العهد الملكي)، وأحمد مختار بابان وغيرهم، أدلوا بهذه الشهادات هم جميعاً ليسوا شيوعيين ولا حتى يساريين، وأن الأخير تسنم رئاسة الحكومة في السنة الأخيرة من العهد الملكي.
 
في الحقيقة كان العهد الملكي نظام ديمقراطي في الظاهر فقط، وإقطاعي رجعي في الجوهر، وكان محكوماً عليه بالزوال وفق قوانين التطور (البقاء للأصلح)، لذلك سقط ولم يدافع عنه أحد، بل خرجت الجماهير من أقصى شمال العراق إلى أقصى جنوبه في تظاهرات مليونية تأييداً لما حصل يوم 14 تموز، وحوَّلت (الانقلاب العسكري) إلى ثورة شعبية عارمة. بينما العكس من ذلك عندما حصل الانقلاب البعثي الفاشي يوم 8 شباط 1963، حيث هبت الجماهير ضد الإنقلابيين الشباطيين، دفاعاً عن الثورة وزعيمها، مما اضطر العسكريون البعثيون حمل صور الزعيم على دباباتهم لخدع الجماهير بأنهم ذاهبون لنصرته، وعندما وصلوا إلى وزارة الدفاع حيث مقر الزعيم، أطلقوا نيرانهم عليه، وهذا دليل آخر على أن البعث لا وجود له بدون الكذب والغش.
 
كما نؤكد لأنصار الملكية أن جميع الجرائم التي ارتكبها حكم البعث الصدامي، مثل العزل الطائفي، والعنصري، والتهجير القسري بتهمة التبعية، وإسقاط الجنسية عن المعارضين السياسيين، لها جذور في العهد الملكي.
 
أما جريمة مقتل العائلة المالكة، التي يصرخ بها أعداء الثورة، فالمعروف أن ليس هناك ثورة في التاريخ خلت من حوادث العنف المؤسفة، والكوارث التي تفلت من السيطرة. فالذي قتل العائلة المالكة هو النقيب عبد الستار سبع العبوسي الذي لم يكن من تنظيمات ضباط الثورة، بل قام بتصرف فردي وبدوافع قومية انتقاماً لضباط حركة مايس 1941، الذين أعدمهم عبدالإله وبصق على جثة الصباغ وهي معلقة بحبل المشنقة، و خوفاً من تكرار السيناريو في حالة فشل الثورة. وقد ذكرتُ التفاصيل عن هذه المجزرة في كتابي عن الثورة، في الفصل التاسع بعنوان (حوادث العنف في عهد الثورة)، الرابط في الهامش(5)
 
ويكفي حكومة الثورة وزعيمها فخراً، أنها خلال أربع سنوات ونصف من عمرها القصير، حققت ضعف ما حققه العهد الملكي من إنجازات خلال 38 سنة. وباختصار شديد، استطاع قائدها الزعيم عبدالكريم قاسم أن يبني 25 مستشفى، من بينها الصرح الشاهق مدينة الطب في بغداد، ومئات المستوصفات، و أن ينشأ 10 مدن سكينة، و44 مصنعاً إضافة الى تشييد 22 جسراً منها الجسر المعلق في بغداد، و 2334 مدرسة في عموم العراق، والخط العريض السريع بين بغداد والبصرة، وميناء أم قصر العميق، ومئات المشاريع الأخرى، وأرسل آلاف البعثات الدراسية إلى الخارج في مختلف الاختصاصات العلمية والهندسية، وأصدر المئات من القوانين التقدمية مثل قانون الإصلاح الزراعي، والأحوال الشخصية، وقانون رقم 80 الذي استرجع بموجبه 99% من الأراضي العراقية من سيطرة الشركات النفطية الأجنبية، وأسس شركة النفط الوطنية، وقرار إلغاء قانون حكم العشائر..الخ. أما الإدعاء بأن هذه المنجزات كانت مشاريع خططها العهد الملكي، وهو مشكوك به، فهذا لا يقلل من فضل الثورة وقائدها، فما قيمة هذه المخططات إذا كانت مجرد حبر على ورق محفوظة في الأدراج والرفوف العالية؟ فهذا لا يقلل من فضل الزعيم عبدالكريم قاسم الذي حول هذه المخططات المنسية إلى مشاريع منجزة. ولقراءة المزيد عن منجزات الثورة يرجى فتح الرابط (منجزات ثورة 14 تموز 1958)(6).
 
خلاصة القول: إن الذي جلب البلاء على العراق هو نوري السعيد وعبدالإله، اللذان سيطرا على كل مقادير البلاد والعباد، ولولاهما لما كانت هناك حاجة للثورة، ولكن هذا لم يمنع من حصول ثورات وانقلابات أخرى، لأن في نفس الوقت كانت هناك تنظيمات في الجيش ومنها تنظيمات القوميين والبعثيين، تخطط للثورة أو الإنقلاب. أما الذين يطالبون بأن كان على الشعب أن يصبر على دكتاتورية الحكام الجائرين خوفاً من الفشل، أو حصول الأسوأ، فهذا كلام غير منطقي، لأنه لو تم تطبيقه لعاشت البشرية كالخرفان يحكمها الطغاة من أمثال صدام حسين، ومعمر القذافي، وبول بوت، وغيرهم، إلى الأبد ولما تقدمت الحضارة. 
 
ومن كل ما سبق نستنتج أن ثورة 14 تموز كانت ثورة حتمية وطنية وشعبية نقية، حققت الكثير من الإنجازات والتحولات الثورية لصالح الشعب، وخاصة الطبقات الفقيرة، وجميع الانقلابات الأخرى التي حصلت بعد ثورة تموز كانت ثورات انتقامية مضادة ، قامت بها قوى داخلية رجعية، بالتعاون مع حكومات ومخابرات أجنبية، انتقاماً من الثورة والشعب العراقي. لذلك بقيت ثورة 14 تموز وقيادتها الوطنية حية في وجدان الشعب العراقي، بينما الثورات المضادة (من إنقلاب شباط الأسود 1963 إلى 17 تموز 1968) انتهت في مزبلة التاريخ.
abdulkhaliq.hussein@btinternet.com  
http://www.abdulkhaliqhussein.nl/
 
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
حمل تطبيق الأقباط متحدون علي أندرويد