لمنع ظهور نسخة جديدة من داعش
د. عبد الخالق حسين
السبت ١٥ يوليو ٢٠١٧
د.عبدالخالق حسين
بجهود وتضحيات أبطال القوات المسلحة من جميع التشكيلات والمكونات، تم أخيراً دحر داعش، و دولتها الخرافية، وإلقائها في مزبلة التاريخ. فقد أعلن رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، من داخل مقر عمليات تابع لقوات مكافحة الإرهاب، رسميا الانتصار على تنظيم الدولة الإسلامية في مدينة الموصل. ولكن هذا لا يعني أن المعركة قد انتهت، إذ مازالت هناك بلدات تحت حكم الدواعش، مثل تلعفر، والحويجة، ومناطق غربي الرمادي وغيرها، إضافة إلى الأيديولوجية الداعشية الوهابية المضللة التي مازلت تعشش في رؤوس المضللين.
لقد كتب كثيرون عما يجب عمله ما بعد داعش، وعلى جميع الصعد، وفي جميع المجالات، لمنع عودة التنظيم، وربما تحت اسماء أخرى. وآخر نصيحة وتحذير في هذا الصدد، جاء من ضابط كبير في الجيش الأمريكي في العراق، وهو ليفتنانت جنرال ستيفن تاونسند في مقابلة مع بي بي سي: "بأن الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية لم تنته بعد رغم الانتصار "التاريخي" في الموصل. وإن " مقاتلي التنظيم اما زالوا في العراق، وعلى الحكومة العراقية الآن محاولة التواصل والتصالح مع العراقيين السنة وجعلهم يشعرون بأن الحكومة العراقية تمثلهم، لوقف التنظيم الجهادي من طرح نفسه بصورة جديدة".(1) في رأيي، هذا الكلام حق، ويراد به حق أيضاً، وعلى الحكومة الأخذ بها.
ولكن الملاحظ أن أغلب الكلام واللوم كان ومازال موجهاً للحكومة الفيدرالية في بغداد، والتي عادة ما توصف بـ"الحكومة التي يقودها الشيعة"، لتتلوها بين قوسين العبارة الدائمة(الموالية لإيران). ولم نقرأ ولو لمرة واحدة، أي مقال يوجه النصيحة إلى الزعماء السياسيين من العرب السنة المشاركين في العملية السياسية، بأن عهد حكم المكون الواحد قد انتهى وإلى غير رجعة، ولا بد من أن يتكيفوا مع الوضع الديمقراطي الجديد، وقبول ما تفرزه صناديق الاقتراع، بل كان كل اللوم منصباً ضد الحكومة الفيدرالية وضد الديمقراطية بتهمة سوء استخدامها.
لذلك أرى من المفيد، بل ومن الواجب أن أساهم في تقديم النصح والتحذير لمنع عودة تنظيم داعش، وتحت أي اسم كان. فعلى جميع السياسيين العراقيين، سنة وشيعة، كرد وتركمان، ومسيحيين وصابئة وأيزيديين، وغيرهم من جميع مكونات الشعب العراقي، أن يعرفوا بأن عهد حكم المكون الواحد قد انتهى وإلى الأبد، وأنه كان المسؤول الأول والأخير عن عدم استقرار العراق، وعرقلة تقدمه، وسبب كل المصائب التي نزلت على الشعب منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921 وإلى الآن. وأن سياسة ودعاية عزل وتهميش وإقصاء أي مكون سيؤدي إلى المزيد من المصائب والدماء والدموع.
فسياسة التهميش اتبعت في جميع العهود، عدى في عهد حكومة ثورة 14 تموز بقيادة الزعيم عبدالكريم قاسم، الذي حاول القضاء التدريجي على التمييز الطائفي والعنصري والمناطقي، لذلك انتقم منه المستفيدون من التمييز بمختلف أشكاله في الحكم. فمنذ العهد الملكي بدأت حملة تهميش وعزل الشيعة بنشر كتب ومقالات وأدبيات تدعي أنهم (الشيعة)، من بقايا الفرس الساسانيين، أو هنود جلبهم محمد القاسم من الهند مع الجواميس، لذلك فهم أجانب، والأجانب لا يحق لهم المشاركة في الحكم، وذلك لتبرير احتكار السلطة من قبل المكون العربي السني، الذين اعتبروا أنفسهم وحدهم يتمتعون بالحق التاريخي في الانفراد بحكم العراق.
وبعد سقوط البعث الفاشي عام 2003، وبدء مرحلة الديمقراطية التي من شروطها مشاركة الجميع في السلطة، لم يتحمل الأخوة العرب السنة هذه المشاركة، ولم يتنازلوا عن "حقهم التاريخي" في احتكار السلطة، وصنع القرار، فرفعوا شعار العزل والتهميش والاضطهاد من قبل الشيعة. وهذا الموقف ضد الشيعة تبنته حتى الحكومات والشعوب العربية في عدائها للديمقراطية في العراق، و وصفتها بأقذع الكلمات التسقيطية، وشنت حملة الفتاوى الطائفية من مشايخ الوهابية في السعودية وقطر وغيرهما.
وفي هذا الخصوص كتب لي صديق مقيم بالسويد قائلاً: "وبحكم عملي في الصليب الاحمر لمدة 18 سنة، التقي بكثير من المواطنين من مختلف الأقطار العربية والإسلامية، حيث أن الانطباع السائد لديهم هو ان الشيعة في العراق يضطهدون السنة، وأنهم استولوا على الحكم بمساعدة إيران والإمبريالية الأمريكية والصهيونية. وان هناك مجازر جماعية ترتكب ضد السنة في العراق... وبهذا الأسلوب الرخيص والمبالغة والتهويل، تم تجنيد الآلاف من الانتحاريين من جميع أنحاء العالم لإبادة "الرافضة المجوس"، حتى إني صرت أخاف أن اجادلهم في الموضوع، لأنهم في غاية الشحن الطائفي. وقد تم تفجير مسجدين للشيعة في السويد من قبل هؤلاء، احدهما في ستوكهولم والآخر في مالمو." انتهى الاقتباس.
ما نود التأكيد عليه، أننا نعيش في عصر الديمقراطية، وأن المارد قد خرج من القمقم، و عهد التهميش والعزل لأي مكون قد ولىّ وإلى الأبد، ويجب الاحتكام إلى ما تفرزه صناديق الاقتراع في التبادل السلمي للسلطة. فالمطلوب من الجميع، الكف عن مثل هذه الدعايات السامة، فقد أثبتت تجارب الـ 14 سنة الماضية أن هذه السياسة تضر بالكل. والحل الوحيد للشعب العراقي هو النظام الديمقراطي، وفصل الدين عن السياسة. والعمل وفق مبدأ (الدين لله والوطن للجميع). وأرى من المفيد أن استشهد مرة أخرى بما قاله عالم الاجتماع العراقي الراحل علي الوردي قبل أكثر من أربعين سنة، لحل المعضلة العراقية في الحكم، فقال:
"إن الشعب العراقي منشق على نفسه، وفيه من الصراع القبلي والطائفي والقومي أكثر مما في أي شعب عربي آخر- باستثناء لبنان- وليس هناك من طريقة لعلاج هذا الانشقاق أجدى من تطبيق النظام الديمقراطي فيه، حيث يتاح لكل فئة منه أن تشارك في الحكم حسب نسبتها العددية. ينبغي لأهل العراق أن يعتبروا بتجاربهم الماضية، وهذا هو أوان الاعتبار! فهل من يسمع؟".
يعتبر البعض هذا القول دعوة للمحاصصة الطائفية. ولكن لماذا نستخدم عبارات تسقيطية للديمقراطية مثل المحاصصة؟ أليست الحكومات الائتلافية في الدول الأوربية الديمقراطية العريقة تتشكل وفق هذا المبدأ في حالة عدم فوز أي حزب بالأغلبية المطلقة في الانتخابات البرلمانية العامة، ويسمونها حكومة الشراكة الوطنية بدلاً من المحاصصة؟ راجع مقالنا الموسوم: (حول إشكالية المشاركة أو المحاصصة) (2).
نعم، نحن نتمنى أن تكون جميع الأحزاب السياسية علمانية، ودون تقسيمات طائفية، أو أثنية، أو مناطقية، تماماً كما في الأحزاب الأوربية حيث يضم كل حزب أعضاء من جميع مكونات الشعب. ولكن لنكن واقعيين، ففي وضع العراق الراهن وجدت ظروف موضوعية، تاريخية وجغرافية، أدت إلى هذه التقسيمات، ولا يمكن تجاوزها بين عشية وضحاها وفق التمنيات الطوباوية. لذلك فالحل الواقعي هو قبول الممكن، والعمل الجاد على التطوير التدريجي لتحويل الأحزاب ذات التوجه الديني إلى أحزاب علمانية عابرة للطائفية والأثنية والمناطقية، وحث الخطى لإنضاج الديمقراطية تدريجياً، بدلاً من مبدأ (كل شيء أو لا شيء) الذي دائماً يؤدي إلى لا شيء.
ولمنع ظهور نسخة جديدة من داعش نقترح ما يلي:
أولاً، العمل على إعمار المناطق المدمرة وذلك بطلب المساعدات الدولية، لأن العراق في حربه على الإرهاب لم يدافع عن نفسه فحسب، بل كان يمثل رأس الحربة بدماء أبنائه، دفاعاً عن العالم كله من شرور الإرهاب الدولي.
ثانياً، العمل على ما اكده رئيس الوزراء الدكتور حيدر العبادي في بيان النصر على داعش، ان "توجه الحكومة المستقبلي يجب ان يتركز على الجانب الاقتصادي، والتنموي، والتعليمي، الذي هو اساس لنهضة الدولة والمجتمع، وضرورة محاربة الفساد الذي اضرّ بالدولة والمجتمع، وتفعيل القانون."(3)
ثالثاً، في الوقت الذي يجب الالتزام بالدستور بتكليف رئيس أكبر كتلة سياسية برلمانية بتشكيل الحكومة، وتحديد نسب وزراء كل كتلة سياسية فيها وفق ما حصل عليه أي حزب أو كتلة من مقاعد في البرلمان، لأن المناصب الوزارية هي سياسية تقررها صناديق الاقتراع في الأنظمة الديمقراطية، يجب تجاوز المحاصصات الحزبية والطائفية والفئوية في تعيين المسؤولين في دوائر الدولة من جميع المستويات، واعتماد مبدأ الكفاءة والنزاهة والولاء الوطني.
رابعاً، تبني أساليب علمية حديثة متطورة ومجدية في محاربة الفساد الإداري والمالي، ولا ضير من الاستعانة بخبرات وتقنيات وأساليب من الدول المتقدمة، وطلب المساعدة منها في شن الحرب على هذه الآفة، لأن الفساد الإداري والمالي أصبح يهدد الأمن والاستقرار، والازدهار الاقتصادي وكيان الدولة بالانهيار، لا يقل خطورة عن الارهاب.
خامساً، يجب التركيز على التعليم من الابتدائية إلى الجامعة، وتنقية مناهجه من كل شائبة تحريضية ضد الآخر، والتركيز على ما يقوي اللحمة الوطنية، ومنع أي تحريض ديني أو طائفي أو عنصري، واعتباره جريمة يعاقب عليها بقانون. وفي هذا الخصوص نشير إلى مقال الأستاذ الدكتور محمد الربيعي، الموسوم (التعليم ما بعد داعش)(4)
سادساً، لقد آن الأوان لكشف المعلومات المتعلقة بسرقة النفط العراقي في المناطق التي كان يحتلها الإرهابيون وما زالوا، مثل الحويجة وغيرها، والجهات التي كانت تشتريه، وبأية أسعار، وكيف يتم تحويل الواردات الى جيوب الداعشيين؟ وما هو عدد العراقيين المنتمين لداعش، ولماذا لا تُعلن أسماؤهم؟ وما هي الجهات التي تزود الأرهابيين بالمال والأسلحة والسيارات، وعن أي طريق تدخل العراق؟ كما ويجب على الحكومة أن تنشر أسماء المتواطئين مع داعش وعدم التستر عليهم؟ أسئلة كثيرة بحاجة الى إجابات صريحة. فالتستر والتساهل والتسامح في هذا المجال يكون في صالح الإرهابيين، لأن في العراق (من أمن العقاب مارس الإرهاب).
وختاماً، إن ما حصل من دمار، وخاصة في المناطق الغربية ذات الأغلبية العربية السنية التي ابتليت بحكم داعش، يجب أن يكون درساً للجميع، وخاصة للقادة الأشرار الذين اعتمدوا الإرهاب والاستقواء بالحكومات الخارجية لتحقيق أغراضهم السياسية، ومصالحهم الشخصية والفئوية، أن هذه السياسة انتهت بالفشل الرهيب، وجلبت الكوارث والنكبات على الشعب، وبالأخص على المناطق ذات الأغلبية السنية. لذلك، فيا حكماء أهل السنة، أرجو احتكام العقل، بأن لا يصلح لحكم العراق إلا النظام الديمقراطي، وأن الديمقراطية هي الحل، وقد آن الأولن أن تزيحوا هؤلاء الأشرار من قيادتكم، ويتولى الأخيار منكم هذه القيادة، إذ كما قال سقراط الحكيم: "إذا تخلى الأخيار عن السياسة، فسيعاقبون بتولي أشرارهم عليهم"
فهل من يسمع؟
___________
روابط ذات صلة
1- قائد عسكري أمريكي: يجب على العراق منع ظهور نسخة جديدة من تنظيم الدولة الإسلامية
http://www.bbc.com/arabic/middleeast-40565237
2- عبدالخالق حسين: حول إشكالية المشاركة أو المحاصصة
http://www.abdulkhaliqhussein.nl/index.php?news=329
3- العبادي : لن نصدر عفوا عن القتلة وتوجهنا المقبل سيتركز على جانبين الأقتصادي والتنموي
http://www.akhbaar.org/home/2017/7/230750.html
4- أ. د. محمد الربيعي: التعليم ما بعد داعش
http://www.akhbaar.org/home/2017/7/230356.html