الوطنية العمياء ولطمية تيران وصنافير
مقالات مختارة | د. حازم الرفاعي
السبت ٢٤ يونيو ٢٠١٧
طالت مواقع التواصل الاجتماعي الفنان الكبير يحيى الفخراني تشويهاً وهجوماً بعد أن أعلن موقفه من قضية تيران وصنافير. والفنان يحيى الفخراني رجل أحبه الناس و ليس في مسيرته بالطبع ما يدفع المرء للاعتقاد بأن ولاءه لبلاده محل أي شك، بل على العكس. ولكن أصحاب حملة «تيران وصنافير» كانوا قد اختطوا لأنفسهم استراتيجيه الغلطة وهي أن الخارج عن سرديتهم وتصوراتهم هو (عواد الذي باع أرضه)، فهو خائن وسبة في جبين وطنه بل وأسرته. أخذت طبول زار (تيران مصرية!) تتعالى في مشهد ضبابي. ووسط كل هذا صار يحيى الفخراني المحبوب هو «أبو جودة الإسرائيلي»، وهو دور جسده في أحد أفلامه في إشارة إلى أن يحيى الفخراني عدو للبلاد إذ عبر الرجل عن ثقته في القيادة السياسية لمصر ومؤسساتها.؟ فكيف نجح هؤلاء في خلق لطمية مفتعلة ترتكز على الإيحاء بالإحساس بالمهانة الكاذبة، فمنهم من كتب أنه لا يستطيع النوم لأن موضوع الجزر (لا يضاهيه في تداعياته الكارثية المهينة في التاريخ المصري إلا نكسة 5 يونيو 1967!)
الواقع أن من قادوا الاحتجاج على ترسيم الحدود وموضوع الجزر يبحثون عن (العاصفة المثالية) التي تقفز بهم إلى المشاركة في الحكم باعتبارهم أصحاب حق، وأن الرئيس مفروض (يسمع الكلام!). وعليه فقد قرروا أن تلك فرصة سياسية لكسر العمود الفقري لمؤيدي السيسي. ولهذا فلقد سلكوا مسلكاً إعلامياً وجماهيرياً يشوبه اجتزاء الحقائق والغموض المتعمد والجنوح لابتزاز من يعارضونهم. موضوع تيران وصنافير -بغض النظر عن تفاصيله- هو جزء من معركة (هنهزم الحكم بالنقط!) وككل الحملات الإعلامية والدعايات السياسية، فلقد كان لها سرد يستطيع جذب الناس من مختلف مشاربهم. هذا السرد وتلك الدعاية اعتمدا على اجتزاء الحقائق. فالتذرع بقضية الجزر يبدو (وطنياً) بحجة الدفاع عن التراب الوطني، و(ليبرالياً) بحجة أكذوبة الانفراد بالقرار، و(تقدمياً) كأنما الأمر مواجهة ضد الوهابية. احتجاج مثالي فهو يجمع المتناقضات والمتناقضين ويحقق مكاسب ضرورية لأقواهم وهو الإخوان المسلمون ذوو الرداء الواسع الفضفاض متعدد الألوان.
. ولقد غيَّب أصحاب الحملة عن الرأي العام مفهوماً هاماً وهو الفرق بين (الوثائق) و(الرأي). فخطاب جمال عبد الناصر الذي يتحدث فيه عن مصرية الخليج كان في ظل صراعٍ مع إسرائيل وحرب قادمة وأزمة مع السعودية على خلفية حرب اليمن. والأمر ذاته يندرج على كتابات جمال حمدان ومحمد حسنين هيكل على أهميتها فهي جميعا تبقى في النهاية (آراء) . أما (الوثائق) فهي ما صدر من مؤسسات الدولة المصرية كالخارجية أو مندوبيها في المؤسسات الدولية؛ فتلك هي ما يعتد به في إجراءات التقاضي الدولية..
فلنفترض أن دوافع أصحاب اللطمية التيرانية هو أن تلك الجزر ضرورية لأمن مصر وأن المصالح المصرية تستدعي الاستيلاء عليها؛ فذلك بالضرورة يفتح الأبواب لأسئلة أهم. أسئلة مثل: فماذا عن معاهدة كامب ديفيد ذاتها التي تكبل تحرك القوات المسلحة في سيناء والتي تقع الجزر ذاتها في إطار المنطقة (ج)؟ وماذا عن آفاق الصراع العربي الإسرائيلي؟ فهل من الصالح المصري والعربي التعمق في مشاريع السلام مع إسرائيل أم لا؟ بل هل تقبل إسرائيل ذاتها السلام أم أنها لن تقبل إلا بعقد إذعان كامل؟ وهل تيران وصنافير وخليج العقبة هي بؤرة الصراع أم أنها في الواقع شمال سيناء حيث لإسرائيل رؤى لمشاريع نقل سكان غزة للعريش لشمال سيناء؟
تلك كلها أمور يتجاهلها علناً أصحاب الزار التيراني فلم يسلم من الاتهامات بالخيانة في لطمية تيران وصنافير رجال عبد الناصر ذاتهم، كسامي شرف ومحمد فايق وهدى عبد الناصر. طال الترويع والتعالي الصنافيري علماءً أجلاء كعاصم الدسوقي وجمال شقرة والسيد فليفل وغيرهم.
أستند الزار ضمن ما استند إليه إلى قرار المحكمة الإدارية ولقد كان اختيارها حيله تقاضي بارعة ولكن الواقع يظل أن المحكمة غير ذات أهلية في ترسيم حدود دولية لأنها عملية فنية معقدة خصوصاً البحرية منها. ولقد أصدرت المحكمة قرارها دون الاستناد إلى رأي خبير واحد! كان فريق محامي الدولة قد رفض التعامل مع المحكمة وتقديم ما لدى الدولة من وثائق لعدم اختصاصها. فإذا بالمحكمة تأخذ بما قدمه المدعون ويبنون عليه حكماً صار هو الأساس لحملة إعلامية تخادع المجتمع. فصار أصحاب الحملة (كهنة لوطنية عمياء) يكذبون وهم يعرفون أنهم يكذبون. تبقي في اللطمية قصة (القناة) التي ستبنيها إسرائيل فتحاصر قناة السويس المصرية فتدفعها للإفلاس وبهذا فإنهم يلقون بالرعب في روع الشعب. والحقيقة أن بناء إسرائيل لقناة بحرية تنافس قناة السويس هو خطر استشعرته مصر منذ زمن. ولكن المثير أن أصحاب اللطمية التيرانية هم ذاتهم من يشنون الحملة على مشاريع تطوير قناة السويس المصرية وتحويلها إلى مركز ملاحي استثماري يصعب منافسته، هذا بغض النظر عن أن مصر لا تستطيع في الأصل إغلاق خليج العقبة، حتى لو استحوذت على الجزر، ولا تستطيع أيضاً منع إسرائيل من شق قناة وإن كانت تلك القناة ملاحياً وفنياً ستكون مشروعاً فاشلاً. فالمشروع في الأساس من دروب الحرب النفسية، فالمشروع المقترح يأخذ الملاحة شرقاً في شبه قوس طويل يبعدها عن أسواقها المستهدفة.
وفي تاريخ أوروبا هناك سوابق عظيمة بشأن قضايا و خلافات الحدود بل وحيث أن الكثير من ممارسي السياسة اليوم قد عبروا على تاريخ الفكر الاشتراكي فإنه تجدر الإشارة بالحدث الأشهر في التاريخ السوفيتي المعروف باسم (صلح برست ليتوفيسك) وهو أحد الأحداث العظام للثورة الروسية، حيث وقّع لينين قائد الثورة الروسية وثيقة تنازل عن أراضٍ روسية متنازع عليها لألمانيا بعد ثورة أكتوبر مباشرة، واعتبر أن هذا السلام هو ضمان إنقاذ الثورة. هذا ما فعله قائد روسي يريد أن ينقذ وطنه، أما أولئك فهم يريدون إسقاطه.
اللطمية التيرانية تذكر المرء ببرامج عالم الحيوان. ففي عالم الحيوان توجد ظاهرة الانتحار الجماعي. وهذه الظاهرة هي باختصار أن قطيعاً يندفع عدواً وبعزم لا يمكن إيقافه، فيطيح بكل من يقف في طريقه بحماس بالغ. تزداد أعدادهم مع ازدياد سرعتهم، ويرتفع غبارهم، ويصم ضجيجهم الآذان مع اقترابهم من الهاوية. كل ظواهر القوة والعنف وادعاء البطولة لا تخفي حالة العمى الجماعي يقودون بعضهم البعض والمجتمع إلى حتفه والموت في الجرف السحيق إن تبعهم.
نقلا عن الأهرام