طريق الألف ميل
بقلم: د.حمدي الحناوي
يتغير الأشخاص ويبقى النظام، فالنظام ليس جماعة من الأفراد يسقط بسقوطهم، وليس مجموعة مبادئ اشتراكية أو رأسمالية، بل آليات تؤدى عملها تلقائيا من خلال وقائع الحياة اليومية. ولو تغير الأشخاص وبقيت الآليات التى سبق أن وضعتهم فى مواقعهم التى كانوا يحتلونها، فسيعود النظام القديم بأشخاص جدد.
آليات النظام القديم وضعت صعوبات كثيرة أمام تغييره. أذابت الأحزاب والنقابات والجمعيات، وحولت الإعلام إلى أبواق دعائية، وأحالت التعليم إلى هيكل فارغ لا يحرك العقل أو الوجدان، وفرقت بين المصريين. وكل هذا وغيره ما زال قائما، يقول أن النظام القديم لم يسقط بعد، وسقوطه يتطلب إزالة تلك الآليات وإحلالها بآليات تصنع التقدم. هذه مشكلة تحتاج إلى خطة طويلة الأجل، والعقبة الآن أن لدينا مشكلات عاجلة لا يمكن أن تنتظر، فما زالت الدولة بلا رئيس، أو برلمان أو حكومة تقود التغير الثورى. ومهما يكن، فعلينا أن نواجه المشكلات العاجلة، وأن نفكر فى الوقت ذاته فى مشكلات الأجل الطويل.
المستقبل البعيد يبدأ صنعه الآن، وما نفعله اليوم سيقرر مصير بلادنا لعشرين أو خمسين أو مائة عام قادمة. وعلينا ألا نفكر فقط فيمن سيشغلون المناصب الشاغرة، بل فيما يجب أن يفعلوه، لتكون مصر بعد عشرين أو خمسين أو مائة عام من الآن، هى مصر التى نتخيلها. الديمقراطية والحرية والعدالة ووحدة المصريين ورفاهيتهم كلها مبادئ عامة ليست موضع خلاف. وما قد نختلف بشأنه هو نوعية الآليات التى يجب إقرارها، لضمان تحقيق التقدم. وتظل آليات الإنتاج هى التى تبنى المجتمع، وتعيد صياغة نظامه.
من هذه الزاوية، لم يكن النظام القديم نظاما لإنتاج الثروة، بل للاستيلاء على ما يوجد منها، غنيمة يقتسمها الأنصار. كان نظاما تجاريا فى الأساس، لا ينتج ما يتاجر فيه، ولا يعتمد على حرية التجارة، بل على السلطة والنفوذ. من هنا كان تركيزه على تجارة الأراضى وعلى تحصيل الإتاوات والعمولات. لم يكن فيه مجال للإبداع وتطوير القدرات، ولم يحترم عقول مصر فضيق عليها، فكانت تهاجر، أو تنزوى وتعيش تحت الحصار.
العقول التى تضطر للهجرة أو الانزواء، هى ضمان المستقبل وهى التى ستحدد مكانة مصر بين الأمم، فى عصر العلم والتكنولوجيا. والثورة السياسية قد تكون هدفا بذاته، لكنها ليست هدفا نهائيا، بل هى خطوة على طريق التقدم. وتحقيق التقدم هو فى النهاية جوهر النضال وأصعب مراحل الثورة، ولا تحققه قراءة العلم، أو شراء منتجات تكنولوجية تصنعها أمم أخرى. رغم أهمية ذلك، فالأهم أن نساهم فى صناعة العلم، وأن نصنع قاعدتنا التكنولوجية. وقد تقدمت الأمم التى خططت ثوراتها من اليوم الأول لسد فجوة التخلف التكنولوجى.
الثورة الفرنسية وهى فى أوجها، أنشأت عام 1795، أول معهد تكنولوجى فى التاريخ، وجعلت رسالته إعادة اختراع ما سبق اختراعه. واليابانيون أدركوا أن تخلفهم كان سبب هزيمتهم وإجبارهم على قبول اتفاقيات استعمارية مجحفة فى الفترة 1854 - 1858، على مثال ما جرى لمصر عام 1840، وقد ركزوا على تجاوز التخلف أولا وبعد ذلك تفاوضوا وألغوا الاتفاقيات. وعبر نفس الطريق نهضت روسيا، والصين والهند وبلاد أخرى.
ثورتنا المصرية أيضا لن تكتمل إلا عبر هذا الطريق، وعلينا أن نستعد من الآن، ونسقط أى وهم بشأن نقل التكنولوجيا، فلن ينقلها أحد إلينا. وسيتعين علينا أن نعيد اختراع العجلة، فقد فعل هذا كل الآخرين. ويعتبر اكتشاف طريق واضح لتحقيق تلك النهضة، معيارا حاسما لاختيار القادة. والموعد الآن، والطريق طويل، لكن طريق الألف ميل يبدأ بخطوة.
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :