الأقباط متحدون - من أين يأتي الشهداء بالقوة في مواجهة الموت؟
  • ٠١:٠١
  • الاثنين , ٢٩ مايو ٢٠١٧
English version

من أين يأتي الشهداء بالقوة في مواجهة الموت؟

سليمان شفيق

حالة

٤٠: ٠٨ م +02:00 EET

الاثنين ٢٩ مايو ٢٠١٧

الانبا مكاريوس
الانبا مكاريوس
كتب : سلمان شفيق
كلمة لأسر الشهداء
نيافة الانبا مكاريوس الاسقف العام الإيبارشية المنيا وابوقرقاص
يرى الكثيرون أن مواجهة العذابات والموت هو أمر يفوق طاقة البشر، ويخشى الكثيرون من تلك المواجهة خوفًا من أن يضعفوا أو يخوروا أو ينكروا. ومن الصلوات التي نردّدها كثيرًا في ليتورجيات الكنيسة: "ثّبتنا على الإيمان الأرثوذكسي إلى النفس الأخير"، وهي شهوة قلب كل أحد أن يموت على إيمانه. ونرى أن الشخص ذاته الذي يحاربه الشيطان ويحارب ذويه بالخوف، هو نفسه يكتسب قوة غير عادية من الله في تلك الساعة. وقد وعد السيد المسيح قائلًا: «فمَتَى ساقوكُمْ ليُسَلِّموكُمْ، فلا تعتَنوا مِنْ قَبلُ بما تتَكلَّمونَ ولا تهتَمّوا، بل مَهما أُعطيتُمْ في تِلكَ السّاعَةِ فبذلكَ تكلَّموا. لأنْ لَستُمْ أنتُمُ المُتَكلِّمينَ بل الرّوحُ القُدُسُ» (مرقس13: 11).
 
إن الاستشهاد هو عمل من أعمال الروح القدس، لا يستطيع شخص ما أن يُقبِل على الموت ما لم يعطه الروح القدس. وفي جنازات الشهداء الأخيرة، كان الناس يبكون وينوحون مثلما كانت مريم ومرثا (يوحنا11: 31)، وأهل طابيثا (أعمال9: 39)، والكثيرين الذين بكوا الآباء والأنبياء عند موتهم ودفنهم، وكذلك نقول في الاحتفال بالقيامة (مديح Tennau في تسبحة نصف الليل): "أسرعت النسوة باكرًا جدًا إلى قبرك، حاملات الطيب ينُحنَ"؛ وقد تركناهم يعبّرون عن البُعد البشري، واحترمنا مشاعرهم وبكاءهم ونحيبهم، ولم يطلب من أحد منهم أن يكفّوا عن البكاء. ولكن ما أن جاء موعد تلاوة قانون الإيمان حتى اختفت في لحظة تلك المظاهر البشرية، ليتحول الحزانى الباكون إلى جبابرة يعلنون إيمانهم بقوّة كالأسود، قوّة رجّت أركان المنطقة المحيطة وليس الكنيسة فقط! فنحن كبشر ضعفاء، ولكن كمؤمنين أقوياء. وكأني بالمصلين المشيِّعين يقولون: تلك عواطفنا وهذا إيماننا.
 
ذكّرني ذلك بالشهيدة فيليستاس (رفيقة الشهيدة بربتوا) وكانت ما تزال موعوظة مقبلة على سر العماد، فلما قبضوا عليها وساقوها إلى موضع المحاكمة جاءتها آلام الوضع إذ كانت حبلى، فسخر منها الجنود قائلين: "ها أنت تتألمين من المخاض، فكيف ستحتملين التعذيب والموت؟!"، فأجابت بشجاعة إن هذه الآلام هي آلام بشرية والعمل البشري، وأمّا تلك فسوف يعينني الله فيها لأنه عمل إلهي: "إني أتألم الآن، أمّا غدًا فيتألم عني آخر هو سيدي يسوع المسيح. اليوم القوة الطبيعية تقاوم الطبيعة، وفي الغد تنتصر فيّ النعمة الإلهية على أشد ما أعددتم لي من التعذيب"، فهي كإنسانة تتألم، وكمسيحية تتحول إلى عملاقة. إن المسيح نفسه تألم بالجسد، وصبر على العذاب والموت.
 
وفي الحادث الأخير اكتملت كافة أركان الشهادة، إذ سألوهم عن هويتهم الدينية ثم طلبوا منهم التخلي عن إيمانهم، فلما رفضوا قتلوهم، وبالتالي ماتوا على الإيمان، وهذا هو الجديد في الحاث الأخير مقارنة بحوادث أخرى، حيث لم تكن ثَمّة فرصة لمحاورة كل من بالكنيسة لسؤال الشهداء قبل قتلهم، فاكتفوا بأنهم مسيحيون يصلّون داخل الكنيسة وقتلوهم، وفي هذا ردٌّ على الذين يدّعون أن القتلى ليسو شهداء لأنه لم تتم مناقشتهم وإعطاؤهم الفرصة لينكروا، فينجوا بذلك من الموت.
 
وفيما يتساءل بعض من ذوي الشهداء بخصوص بعض الضعفات للشهداء خلال حياتهم بالجسد، نقول إنه لا يوجد عبد بلا خطية ولو كانت حياته يومًا واحدًا على الأرض، ولو كان تائبًا معترفًا منذ ساعات. كما أن العديد من الشهداء في العصور الأولى كانوا وثنيين حتى لحظة استشهادهم، حين أعلنوا إيمانهم بشكل مفاجئ فأمر الوالي بقتلهم على الفور. وفي ضمير الكنيسة أن الاستشهاد معمودية، والمعمودية غفران لجميع الخطايا السابقة، ولا يوجد أعظم من أن يموت إنسان عن المسيح، فهو يظهر بذلك أيّة محبة لله في قلبه.
 
إن الحياة ستنقضي مهما عاش الإنسان حتى ولو عاش عمر متوشالح (969 سنة) ولكن المهم هو مصيره الأبدي، لأن هذه الحياة مهما طالت فهي كنقطة ماء بالنسبة لبحر إذا ما قيست بالحياة الأبدية.
 
وعن المعاناة في موتهم، فهي بلا شك أهون كثيرًا من معاناة شهور وسنين تحت وطأة الأمراض والجراحات والتنقل بين المستشفيات، وقد سمعت بنفسي من بعض المصابين أنهم في حالتهم هذه ورغم شكرهم لله لنجاتهم، ألّا أنهم يتمنّون لو كانوا قد انضموا إلى الشهداء الذين كانوا معهم في اليوم ذاته.
قالت أم لابنتها أول أمس: إذا قابلكِ شخص وسألكِ عن ديانتكِ فلا تخفي بل أعلني أنك مسيحية، وإذا طلب منك أن تنكري المسيح فارفضي بشدة وتمسكي بإيمانك، ويمكن أن تشعري وقتها بضربة خفيفة بعدها تكونين في السماء مع بابا يسوع والملائكة وأطفال كثيرين.
 
علينا أن نمارس حياتنا بشكل طبيعي في العمل والأسرة والخدمة، ولا نكرس كل الوقت والفكر في انتظار حادث جديد قد نُقتَل فيه، بل «إنْ عِشنا فللرَّبِّ نَعيشُ، وإنْ مُتنا فللرَّبِّ نَموتُ. فإنْ عِشنا وإنْ مُتنا فللرَّبِّ نَحنُ» (رومية14: 8).
 
فخورون بهم. وفخورون بكم، ولا سيما الأمهات اللاتي ربَّينَ هؤلاء الشهداء على الإيمان المستقيم. وفخورون بالآباء الكهنة والخدام والخادمات الذين تعبوا في خدمتهم فكان هذا الثمر. ومثلما نسكب دموعنا ألمًا لفراقهم، نصلي إلى الله أن يسكب العزاء والهدوء والطمأنينة في قلوب الجميع.
«مَنْ سيَفصِلُنا عن مَحَبَّةِ المَسيحِ؟ أشِدَّةٌ أم ضيقٌ أمِ اضطِهادٌ أم جوعٌ أم عُريٌ أم خَطَرٌ أم سيفٌ؟
كما هو مَكتوبٌ: «إنَّنا مِنْ أجلِكَ نُماتُ كُلَّ النَّهارِ. قد حُسِبنا مِثلَ غَنَمٍ للذَّبحِ».
 
ولكننا في هذِهِ جميعِها يَعظُمُ انتِصارُنا بالّذي أحَبَّنا.
فإنّي مُتَيَقِّنٌ أنَّهُ لا موتَ ولا حياةَ، ولا مَلائكَةَ ولا رؤَساءَ ولا قوّاتِ،
ولا أُمورَ حاضِرَةً ولا مُستَقبَلَةً، ولا عُلوَ ولا عُمقَ، ولا خَليقَةَ أُخرَى،
تقدِرُ أنْ تفصِلَنا عن مَحَبَّةِ اللهِ الّتي في المَسيحِ يَسوعَ رَبِّنا.»
(رومية8: 35-39).
انبا مكاريوس