الاحتلال البعثي للعراق هو الأبشع
د. عبد الخالق حسين
٤٤:
٠٩
ص +02:00 EET
الخميس ٤ مايو ٢٠١٧
د.عبدالخالق حسين
نحن في مواجهة حرب كلامية لا تقل ضراوة وخطورة عن الحرب الحقيقية، لأن (الكتابة حرب)، كما قال فولتير. فنحن أمام حزب فاشي عنصري وطائفي، أحكم قبضته على رقاب الشعب 40 عاماً، وخلال هذه الفترة لم يعتمد في ترسيخ حكمه على تبعيث القوات المسلحة والأمنية، وكافة أجهزة الدولة فحسب، بل، وأسس جيوشاً جرارة من فرسان الكلام في علم النفس، وعلم الاجتماع، والإعلام، والتربية والتعليم، للسيطرة على عقول أبناء الشعب وتوجيههم كما يشاء، فعن طريق الكلام والتلاعب بالألفاظ يمكن تحويل الحق إلى باطل وبالعكس، والهيمنة على المجتمع وتسييره كما يشاء الحاكم، إضافة إلى ممارسة إرهاب الدولة. أما بعد السقوط، فاعتمدت فلول البعث على الإرهاب أيضاً، وحروب الإبادة، وعلى القلم في صناعة الإشاعات السامة، والأخبار الكاذبة لتضليل العقول، وتشويه المفاهيم الوطنية والإنسانية.
وقد أشرت في مقالي السابق الموسوم (مخاطر الأخبار الكاذبة)(1)، وقبله العديد من المقالات(2،3)، إلى الأساليب الشيطانية الخبيثة التي يستخدمها مرتزقة البعث وأشباههم في التضليل، منها تأليف تقارير كاذبة وأخبار زائفة، والإدعاء بأنها من ويكيليكس، أو أية صحيفة غربية مشهورة، أو تنسيب تصريحات كاذبة بحق العراق الجديد، و شخصياته المعروفة، والادعاء أنها صادرة من مسؤولين أمريكان كبار، هذا السلوك صار أمراً مألوفاً، وهم يعرفون أن القارئ ليس لديه الوقت الكافي، أو الوسيلة للتحري عن مصداقية هذه التقارير و مصادرها. وقد فضحنا، مع غيرنا، الكثير من هذه الألاعيب الخبيثة.
ومصدر آخر ييستخدمه هؤلاء في التضليل، وهو ما يجدونه في التراث الشعبي من حكايات، وحتى تأليف الجديد منها لخدمة أغراضهم. ومن هذه الحكايات على سبيل المثال، واحدة نقلها أحدهم ضمن إحدى مجموعات النقاش، تضم نحو مائة مستلم، أنقل نصها مع الاعتذار عن الإطالة وذلك لضرورة الالتزام بالنقل... تقول الحكاية:
(يحكى أن جيشاً أراد أن يدخل مدينة .. فوقف عند أطرافها ، و أرسل عيونه تستقصي عن أخبارها ..
فوجدوا شيخاً كبيراً يحتطب الحطب، يرافقه فتى صغير ...قالوا له: أخبرنا عن بلدك، وكم عدد جيشكم، و كيف نستطيع أن ندخلها و ما هي منافذها ...؟ فقال لهم: سأخبركم لكن بشرط أن تقتلوا هذا الشاب، قبل أن أقول لكم شيء .. لكي لا يكون شاهداً على ما سأقوله لكم .. فقالوا: لك ذلك.. فأخذ أحدهم السيف و قطع عنقه، فسال الدم ليملىء الأرض و يشربه ترابها، والشيخ العجوز ينظر إلى الأرض وهي تشرب روح الفتى. فقال لهم: أتدرون من هذا الذي جعلتكم تقتلوه؟ قالوا... أنت أعلم منا به. قال: هذا ولدي ... خشيت أن تقتلوني أمامه فتنتزعون منه ما تشاؤون من القول، ففضلت أن يُقتل على أن ينطق حرفاً واحداً يساعدكم في غزو بلدي .. تركه الجنود و هو يحتضن جثة ولده.. وعادوا أدراجهم و قصوا للملك القصة، فقال الملك: أعيدوا الجيش و انسحبوا من هناك ، فبلدة يضحي بها الآباء بالأبناء لأجلها، لن نستطيع غزوها، وإن غزوناها فلن ننتصر ..) انتهت الحكاية، ويضيف مرسلها أو مؤلفها: (لعنة الله على كل من خان بلده، وتآمر عليه إلى يوم الدين ...)(كذا).
هذه الحكاية تذكرنا برواية (أخرج منها يا ملعون) بقلم (كاتبها)، والتي يُعتقد أن كاتبها صدام حسين.
طبعاً نعرف أن المقصود بهذه الحكاية الخيالية الرمزية، هو المعارضة العراقية في عهد صدام، والتي توصلت إلى استنتاج أن لا أمل في تحرير العراق بدون الدعم الخارجي.
ونحن أيضاً نقول (لعنة الله على كل من خان بلده ، وتآمر عليه إلى يوم الدين ...). ولكن هؤلاء يحاولون تشويه الحقائق، فأبشع إحتلال تعرض له العراق هو احتلال البعث الفاشي، سواءً كان احتلالهم الأول يوم 8 شباط 1963 الأسود، أو احتلالهم الثاني في عام 1968، وفي كلا الاحتلالين كان بمساعدة المخابرات الغربية وعلى رأسها الأمريكية.
وخلال الاحتلالين بذل البعثيون قصارى جهودهم لتضليل الشعب وتفتيت نسيجه الاجتماعي لتسهل لهم السيطرة عليه وحكمه بالقبضة الحديدية، ومن هذه الأساليب وكما جاء في تعليق وصلني من الأستاذ صلاح كبة، مشكوراً، على مقالي الأخير (مخاطر الأخبار الكاذبة) أجتزئ منه ما يلي:
(.... نعم وألف نعم انها الصناعة الجديدة القديمة التي أتقنها هذا الحزب الشوفيني الذي دمر العراق وسوريا والمنطقة العربية بأجمعها. انت وانا نتذكر بحكم أعمارنا كيف دشن هذا الحزب جهاده بحرب الشائعات، فقبل انقلاب ١٩٦٨ المشؤوم مَلئوا أسماعنا بأخبار كاذبة عن فساد حكومة طاهر يحيى وسرقاته للملايين. ومع تحفظنا عن سياسته الا إنه ظهر بعد ان جاؤوا الى الحكم انه (اي طاهر يحيى) لا يملك الا داره التي لم يكمل سداد ديون بنائها. ثم جاؤوا الى الحكم فحكموا عن طريق الهاء الناس بالشائعات، فمن ابو طبر، وإخافة الناس به، الى عدنان القيسي والهاء الناس به ، الى قصص التسمم بالزئبق، الى قصص تشويه سمعة ضحاياهم. مهنة الشائعات انها المهنة التي أتقنها البعثيون وعرفوا كيف يسخرونها لمصالحهم. وها هم بعد 2003 لم يتوقفوا عن شن هذه الحملات يدعمهم جهل أشباه المثقفين وحب العراقيين لاخبار المبالغة، ونظريات المؤامرة. لهذا تراهم يبالغون بأخبار الفساد (مع اعترافنا بوجوده) فيُحوِّلون المليون الى بليون! ويتهمون من يتجرأ ويذكر إيجابية واحدة لوضع العراق بعد 2003 بأنه من (مستفيدي الوضع الجديد)، حتى تراهم بشائعاتهم ومبالغاتهم بسلبيات هذا العهد أفقدوا كثير من الناس ثقتهم بالنظم الديمقراطية، وبالحقيقة القائلة بان لهذه النظم ميزة تصليح نفسها بنفسها، وأصبح الكثيرون يفكرون جديا بان هذه الديمقراطية لا تصلح لنا!!! الحمد لله بوجود أناس وكتّاب واعون مثلكم نستطيع من خلالها ان نرد على منطق اذناب هذا الحزب المعوج الذي ما زال يبث سمومه هنا وهناك.) انتهى.
هذا المعلق الوطني الشريف الواعي النبيه اللبيب، والملايين من أمثاله هم أملنا، ودليل على أن البعثيين وأشباههم وأذنابهم، فشلوا في تضليل كل الشعب، إذ كما قال ابراهام لنكولن: (يمكن أن تخدع كل الناس بعض الوقت، وبعض الناس كل الوقت، لكنك لن تستطيع خدع كل الناس كل الوقت.)
لقد دفع شعبنا الكثير إلى أن تعلم الدرس، ولكن مع ذلك مازال هناك ناس ينخدعون ويدفعون الثمن. والمؤلم أن من بين هؤلاء المخدوعين مثقفون لا نشك بوطنيتهم وحسن نواياهم، ولكنهم مع الأسف ضحايا التحجر الأيديولوجي اليساروي، والعداء المترسخ للغرب إلى حد الإضرار بالشعب والوطن، ومن هؤلاء كاتب نشر مقالاً بعنوان (البيان الأول للدمار الشامل)، يرد به على مقالي الموسوم (علاقة العراق بأمريكا بين الممكن والدمار الشامل")(2)، فيه الكثير من التشويه والعاطفة وسوء الفهم، والذي من شأنه خدمة البعث الداعشي. يعتبر الكاتب مقالي بمثابة "البيان الأول لزيارة مرتقبة للرئيس الأمريكي ترامب الى العراق.." ويضيف: " نتجنب ذكر اسمه أملاً في ان يُصدر ايضاحاً يكذب فيه نفسه ليُطمأن المواطن العراقي على مصيره". والسؤال هو: لماذا تتجنبون ذكر اسم صاحب المقال وهو معروف من عنوان مقاله!! نسي الأخ أن من أعز أمنيات أعداء العراق هو تحريض أمريكا ضد العراق.
مع احترامي للكاتب وعواطفه الوطنية الجياشة، (ومن الحب ما قتل)، فلو تتبعنا كتاباته خلال العامين الأخيرين لوجدنا أنه نشر نحو مائتي مقالة، إلا إنها في الحقيقة هي مقالة واحدة، أعاد كتابتها مائتي مرة مع تغيير طفيف في عناوينها، وإعادة ترتيب جملها، وهي في أغلبها لطميات ومناحات وبكائيات على اللبن المسكوب، أدمن عليها العراقيون، سواءً في كتاباتهم، أو أشعارهم، أو أغانيهم الحزينة مثل أغاني سلمان المنكوب (أمرَّن بالمنازل منازلهم خلية...الخ)، التي يقول عنها العلامة علي الوردي: كأن الطاعون كرف أهله وبقي هو وحده في الدار صارخاً (معلَّم على الصدمات خايب با كلبي- قلبي).
نؤكد ثانية أن أبشع احتلال تعرض له الشعب العراقي هو الغزو البعثي الفاشي، الذي أهلك الحرث والنسل وهدد وجوده بالفناء. فهكذا شعب لا يحتاج إلى بكائيات وحكايات العجائز، والمقالات العاطفية، والتخوين والتسقيط والتشهير، والتحريض ضد من يمد يده لمساعدته، وإخراجه من محنته، بذريعة أن أمريكا هي التي جلبت البعث إلى الحكم، بل يحتاج إلى التحليل العقلاني المنطقي، وإيجاد الحلول العلمية الصحيحة. هؤلاء فقدوا بوصلتهم، شاؤوا أم أبوا، فإنهم برفضهم دعم التحالف الدولي بقيادة أمريكا، فإنهم يعملون على إبقاء العراق تحت إحتلال داعش إلى مستقبل غير منظور. فلو كانت الحكومة العراقية قد نجحت في كسب أمريكا إلى جانبها، لما تجرأت تركية والسعودية وقطر وعملاؤهم في الداخل، التجاوز على السيادة الوطنية واحتلال ثلث مساحة العراق من قبل مرتزقتهم البعثيين باسم داعش، ولما تجرأ السلطان إردوغان باحتلال بعشيقة واستهان بالسيادة الوطنية العراقية.
إن حكاية الشيخ الحطاب الخيالية، تشبه حكاية الرجل العراقي الواقعية، وربما مقتبسة منها، الرجل الذي قتل ابنه لأنه ارتكب جريمة أخلاقية تمس شرف العائلة، وللتخلص من العقوبة، ادعى الأب القاتل أنه قتل ابنه لهروبه من جبهة القتال في الحرب مع إيران وبذلك وجلب العار للعائلة، فقتله غسلاً للعار! فسارع الطاغية صدام حسين بتوظيف الجريمة لمصلحته في حملته الدعائية، بمنح الأب القاتل وسام الرافدين من الدرجة الأولى أمام الشعب في التلفزيون، وبذلك وضع صدام سابقة سيئة في تكريم قتل الآباء لأبنائهم من أجل الطاغية، والتي أدانها الشعب.
هناك سوء في فهم المفاهيم الوطنية والإنسانية لدى هؤلاء حيث راحوا يستخدمونها ضد أغراضها الحقيقية، وما أشبه اليوم بالبارحة.
إذ ينقل لنا التاريخ، أن سأل رجلً الإمام علي (ع) ذات يوم: " أيمكن أن يجتمع الزبير وطلحة وعائشة على باطل؟ فأجابه الإمام: "إنك ملبوس عليك، إن الحق والباطل لا يُعرفان بأقدار الرجال، إعرف الحق تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف أهله." (طه حسين، الفتنة الكبرى، ج2، ص 40).
وهذا ينطبق تماماً على أولئك الذين التبس عليهم الأمر، فلا يفرقون بين الاحتلال البعثي الفاشي الذي دمر البلاد والعباد، وبين ما يسمونه خطأً، بالاحتلال الأمريكي الذي أنقذ العراق من كوارث البعث وهي كثيرة وباتت معروفة للجميع إلا الذين في نفوسهم غرض، أو أصيبوا بالجهل وعمى الألوان، وفقدان القدرة على التمييز بين الحق والباطل، وبين الخطأ والصواب؟
فما تسمونه بالاحتلال الأمريكي، هو نفسه الذي حرر الشعب الألماني وجميع الشعوب الأوربية من النازية والفاشية، فهل الجنرال ديغول وأنصاره الذين دخلوا فرنسا مع قوات الحلفاء، وأسقطوا حكومة فيشي التي أعلن قيامها المارشال فيليب بيتان بمساعدة الألمان، وهي تشبه حكومة صدام التي قامت بمساعدة أمريكا في الستينات، ثم انقلب عليها، فهل كان ديغول وأنصاره، وأديناور الألماني وأنصاره، والاٌيطاليون الذين تعاونوا مع قوات الحلفاء وأطاحوا بالفاشي موسليني، قد خانوا أوطانهم يستحقون اللعنة ؟
وهل المعارضة العراقية التي قاومت صدام حسين ونظامه الجائر، واستعانوا بنفس الدول التي حررت العالم من الفاشية والنازية، خونة وملعونون؟ إذا كنتم تحلمون بأن الشعب العراقي وحده كان يجب عليه تحرير بلاده من رجس البعث الفاشي، فقد حاول هذا الشعب مراراً وخاصة في انتفاضته الشعبانية الكبرى عام 1991، ولكن قابلها صدام بقتل 300 ألف من المنتفضين في محافظات الوسط والجنوب، وملأ العراق بالمقابر الجماعية، كما أباد الشعب الكردي بالغازات السامة والأنفال وأحرق نحو 5000 قرية.
المشكلة، أن هؤلاء السادة يستخدمون تاريخ أمريكا في الحرب الباردة ذريعة لرفض دعمها للعراق في حربه على فلول البعث الداعشي، ولا شك أن هذا الموقف يخدم داعش، ومن يقف وراءها، وله ضرر كبير على الشعب العراقي. فالحكمة تفيد: إذا كان بيتي يحترق، فمن السخف والهراء والغباء أن أسأل عن هوية فريق الإطفاء. أمريكا نجحت في تحرير العراق من أبشع احتلال داخلي فاشي، وأقامت فيه نظام ديمقراطي في صالح جميع مكونات شعبه، محكوم عليه بالنجاح رغم ما يواجه من معارضة، ولكن أمريكا لا يمكنها أن تحرركم من جهالتكم، وأحقادكم، وعنصريتكم، وبداوتكم، وطائفيتكم، الضاربة جذورها في عمق التاريخ، فهذه الأمراض المزمنة تحتاج إلى أجيال لتتعافوا وتشفوا منها.