هيكل وجمال حمدان
سامح جميل
١٦:
٠٩
ص +02:00 EET
الاثنين ١٧ ابريل ٢٠١٧
بقلم - سامح جميل
على مسافة خمسة كيلومترات من قرية باسوس، حيث تعيش عائلة حسنين هيكل، وبعد خمس سنوات من ميلاد الطفل محمد حسنين هيكل، ولد جمال حمدان في قرية «ناي» بمحافظة القليوبية، (فبراير 1928)
مرة أخرى يتقاطع هيكل مع مثقف وعالم كبير، هو الدكتور جمال حمدان الذي يعتبر أن الجغرافيا مدخل أساسي لصناعة التاريخ.
نشأ جمال في كنف والده مدرس اللغة العربية، وكان أزهريا اهتم بتحفيظه القرآن، وحرص على استكمال تعليمه حتى تخرج بتفوق من قسم الجغرافيا، في كلية الآداب عام 1948، وعين معيدا في جامعة القاهرة، ثم سافر في بعثة إلى بريطانيا حصل خلالها على الدكتوراه في فلسفة الجغرافيا من «جامعة ريدنج».
بعد الدكتوراة عاد حمدان إلى مصر، وحقق نجاحا أكاديميا، وشهرة بين المثقفين، وحصل على جائزة الدولة التشجيعية عام 1959م في بدايات الثلاثين من عمره، لكنه قطع مسيرته الأكاديمية فجأة، وقدم استقالته عام 1963م احتجاجا على تخطيه في الترقية إلى وظيفة أستاذ، وخرج من الجامعة ليعيش في صومعة العزلة، متفرغا لدراساته الجغرافية وأهمها «شخصية مصر.. دراسة في عبقرية المكان»
حتى ذلك الحين لم يلتق هيكل وحمدان في الجغرافيا، لكنهما التقيا في التاريخ، حيث سمع كل منهما بالآخر.. كانت القضية عند هيكل شائكة، فقد علمته السياسة وسفريات الصحافة وحواراته مع العلماء والزعماء، أن الحضارة تولد من جدلية العلاقة بين الجغرافيا والتاريخ، وان القرار السياسي (والعسكري أيضا) لن يصدر صحيحا أبدا، إذا تجاهل الخرائط، فالخرائط ليست مجرد وصف معلوماتي للتضاريس والاماكن، لكنها اضطلاح استراتيجي واسع، دخل لغة الخطاب السياسي بتعريفات اوسع تشمل برامج العمل، وخطط المستقبل، وآفاق حل الأزمات، مثل «ريطة الطريق»، خريطة المستقبل«،»خريطة الحل«... إلخ
من هذا الاهتمام بدأ هيكل يتابع دراسات حمدان منذ تخرجه وانتشار خبر نبوغه وتعريفاته للجغرافيا، ولما صدر الجزء الاول من موسوعة «شخصية مصر» تلقفه هيكل، وقرأه بتركيز شديد، واعتبره واحدا من الأسس التي يجب أن يعتمد عليها مشروع تحديث المجتمع المصري.
بعد سنوات، سأل هيكل عن حمدان، وتألم من فكرة اعتزاله، وقرر أن يقتحم هذه العزلة، ويزوره في صومعته الضيقة، وكانت عبارة عن شقة في الدور الأرضي تشبه «البدرون» بشارع هارون قرب ميدان المساحة بالدقي، وقام بترتيب تلك الزيارة رئيس تحرير مجلة «الهلال» الأسبق «مصطفى نبيل» في أمسية صيفية من أمسيات القاهرة في نهاية الثمانينات.
في تلك الليلة طرق مصطفى باب مسكن حمدان بشفرة معينة، عبارة عن خبطتين متتاليتين، ثم لحظة صمت، ثم خبطة واحدة، ثم خبطتين متتاليتين، وهكذا، لكن حمدان لم يفتح!
سأل هيكل عن سر الطرقات، وتعلم الشيفرة التي اتفق حمدان عليها مع عدد محدود من الأصدقاء الذين يسمح لهم بالزيارة، وطرق هيكل الباب بنفس الطريقة، لكن الباب ظل مغلقا، وبعد عدة محاولات اقتراح مصطفى نبيل ترتيب موعد آخر للزيارة، لكن هيكل رفض الاقتراح، وتصرف بطريقة المراسل العسكري والصحفي العنيد.
تخيلوا أن هيكل بكل أناقته ينحني نحو أسفلت الشارع ويمسك بحجرا صغيرا، ثم ينظر حوله قبل أن يقذف نافذة «جمال حمدان»، ربما يكون حمدان نائما فيوقظه الصوت.
وبالفعل فتح حمدان الباب بحذر، كان يرتدي «روبا» أحمر فوق بيجامته التقليدية المخططة، وعندما دخل هيكل من الباب نظر بدهشة إلى تفاصيل المكان المهمل الغارق في الفوضى، ونظر ناحية حمدان وهو يسأله معاتبا:
إيه ده؟..
ليه بتعمل في نفسك كده؟
إذا كنت تستلهم فكرة الرهبنة المصرية بالعزلة في الخلاء، فهذا لا يعني أن تنعزل في هذه الفوضى التي أراها!.. أنت الآن مؤثر في التفكير العام، لحدود لا تتصورها، وإسهاماتك مراجع كبرى للباحثين والمثقفين..
بعد الصدمة والعتاب اقترح هيكل استكمال اللقاء في مكان آخر يصلح للحوار، وقال في نفسه: ربما يتأثر حمدان بتدفق الحياة الطبيعية ويفكر في العودة إليها.
في الفندق الفخم المطل على النيل على بعد أمتار من صومعة حمدان، نظر عالم الجغرافيا إلى السيجار في يد هيكل وباغته بالسؤال: لماذا تتصرف كلورد بريطاني رغم أنك كنت صديقا لعدو بريطانيا جمال عبدالناصر؟
رد هيكل بابتسامة، وناول حمدان سيجارا وهو يقول: لماذا لا تجرب؟
أخذ حمدان السيجار وصار ينفث الدخان في الهواء، وهو ينظر بتأمل في ناحية النيل.
في هذه الأثناء التقط هيكل لحظة عناق حمدان مع النيل، وتحدث عن علاقته بجغرافيا وتاريخ مصر، وتركز النقاش حول كتابات حمدان عن عبقرية المكان وحركة التاريخ.
اقتربت الساعة من منتصف الليل، وهو وقت نادرا ما يشهده هيكل يقظا، وقبل مصافحة الوداع اتفق هيكل مع حمدان على شيفرة معينة تيسر له الاتصال بالتليفون الأرضي، بحيث يرد حمدان مطمئنا، فلم تكن خاصية إظهار الرقم قد دخلت مصر، وكانت الشيفرة رنة واحدة، ثم يقطع الخط، ويتصل رنتين، ثم يقطع الخط ليرد حمدان في الثالثة.
اتصل هيكل ورد حمدان، واتفقا على لقاء في مكتب هيكل قرب مكان الموعد الاول، وجاء حمدان حاملا نسخة من «شخصية مصر» عليها إهداء بخطه لهيكل، وتجدد النقاش بحيوية أكثر، وكان واضحا أن بذرة الصداقة الشخصية ستثمر كثيرا، لكن الموت الغامض وضع حدا للقاء الجغرافيا والتاريخ، وإن ظل تقدير هيكل لجمال حمدان واضحا في كتاباته وأرائه الشفوية، وتركيباته اللغوية والأسلوبية، فقد اشتهر «فيلسوف التاريخ» بالعبارات التي تعتمد على الثنائيات والسجع الخفيف، والتضاد، وتقابل المعاني، وهو ما تجلى أيضا في كتابات «الجورنالجي المهتم بالتاريخ» مثل تعبيره عن حالة التخلف التي سيطرت على المجتمع طوال القرون الوسطى وحتى صدمة اللقاء الحضاري مع مجئ الحملة الفرنسية إلى مصر، حيث كتب:
«نام مجتمعنا على وهم ليصحو على كابوس»
وفي وصفه للجامعة العربية منتصف التسعينات كتب:
«بيت العرب صار مثل القصور المسكونة بالاشباح، يدخل إليه الناس بالخطأ، ويخرجون منه بالهرب»
وعن فترة الانفتاح الساداتي عقب نصر أكتوبر، وحتى فترة مبارك، وما صاحبها من تبعية واختلاط أوراق كتب:
«أخذتنا أهواء وتلاعبت لنا مطامع، ثم غلبتنا حقائق حياة وحقائق زمان»
ومن أشهر عباراته التي احتوت على ثنائيات تشبه أسلوب حمدان في شخصية مصر تفسير لمأزق مصر بهذه العبارة:
خلطنا بين الثوابت والمتغيرات، الاستراتيجية والتكتيك، القيم والنزوات، الاصالة والتقهقر، التجديد والتقليد الأبله للآخرين«...
هكذا كان هيكل وسوف يظل جسرا تلتقي عليه الأفكار مهما تباينت، يجمع عقول مصر مهما تنوعت، فالاختلاف ثراء، والتنوع مطلوب، والمنافسة حماس، والمشاركة واجب، والأمل ضرورة، والوطن يتسع للجميع. هذه الأسس هي سر عبقرية هيكل، وشبابه، واستمراره، في الجعرافيا والتاريخ، ولا مكان في الجغرافيا والتاريخ لمن لايحترم قوانين الحياة...!!
جمال الجمل..