هل حقاً من الصعوبة حكم العراق؟
د. عبد الخالق حسين
١٥:
١٠
ص +02:00 EET
الخميس ٦ ابريل ٢٠١٧
عبدالخالق حسين
هناك مقولات مأثورة كثيرة لمفكرين وقادة سياسيين في مختلف مراحل التاريخ عن مدى صعوبة حكم العراق، ذكرتها في مقال مطول لي قبل سنوات بعنوان (الخراب البشري في العراق)(1). ولا أرى ضيراً من إعادة بعضها ، فـفي الإعادة إفادة، كما يقول المثل. لقد قيل الكثير عن أهل العراق في معارضتهم للحكومات منذ كتابة التاريخ وإلى الآن، لم يسلم منهم حتى الإمام علي، ولا عبدالكريم قاسم الذي يؤكدون وطنيته ونزاهته وتضحياته. ومن هذه المقولات ما يلي:
أن الاسكندر المقدوني عندما احتل وادي الرافدين في القرن الرابع قبل الميلاد، عانى كثيراً من شعبه، فقرر إبادته ونقل أناس من مناطق أخرى من العالم للسكن فيه. فاستشار أستاذه أرسطو الذي نهاه عن ذلك قائلاً أنه، بعد جيل أو جيلين سيعود الناس الجدد إلى ذات السلوك طالما عاشوا في نفس البيئة الجغرافية. ويقصد أن الهواء والماء والمناخ، هي المسؤولة عن سلوك البشر. فالتاريخ نتاج الجغرافية كما هو معروف.
كذلك ينقل عن الإمام علي أن العراقيين ملؤوا قلبه قيحاً وصدره غيضاً، وله مقولات كثيرة يعرب بها عن مدى سخطه من العراقيين وصعوبة التعامل معهم. وقول لمعاوية ابن أبي سفيان ينصح ابنه يزيد: (إذا أراد منك أهل العراق أن تبدل لهم في كل يوم والياً جديداً فاستجب لهم، لأن ذلك أسهل عليك من أن يشهروا في وجهك مائة ألف سيف).
وقال الملك فيصل الأول في مذكرة له عممها على الشريحة الحاكمة المحيطة به في عام 1933: (...الموقف خطــــر وفي هذا الصدد وقلبي ملآن أسى ، انه في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد كتلات بشرية، خالية من أية فكرة وطنية، متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية ، لا تجمع بينهم جامعة ، سماعون للسوء ميالون للفوضى مستعدون دائماً للانتقاض على اية حكومة كانت، فنحن نرى ، والحالة هذه، ان نشكل من هذه الكتل شعبــاً نهذبه ،وندربه ، ونعلمه ، ومن يعلم صعوبة تشكيل وتكوين شعب في مثل هذه الظروف، يجب ان يعلم عظيم الجهود التي يجب صرفها لإتمام هذا التكوين وهذا التشكيل. هذا هو الشعب الذي اخذت مهمة تكوينه على عاتقي، وهذا نظري فيه ...)
وقد وضع الرجل خطة متكاملة لتحقيق مشروعه الوطني، ولكن لسوء حظ الشعب العراقي، مات الملك بعد أشهر قليلة من كتابة تلك المذكرة، ونفذ الحكام بعده عكس ما أراد، وخاصة في عهد صدام حسين الذي فتت النسيج الاجتماعي، وأثار أشد العداوات بين مكونات شعبه.
كما ألف الباحث العراقي، الدكتور باقر ياسين كتاباً بعنوان (تاريخ العنف السياسي في العراق)، فتتبع فيه جذور العنف منذ عهد السومريين والبابليين مروراً بالفتح العربي- الإسلامي، ولحد انقلاب 8 شباط 1963 الدموي الذي قتل فيه الألوف من الوطنيين العراقيين في غضون أيام قليلة، والذي لم يكن أقل سوءاً على العراق من غزو المغول عام 1258م.
فشعب العراق منقسم على نفسه، وبعد زمن طويل من دكتاتورية المكون الواحد، والحزب الواحد، فوجئ بالنظام الديمقراطي الذي من شأنه اختيار الحكام وفق ما تفرزه صناديق الاقتراع. وفي هذه الحالة، الفئة التي احتكرت السلطة وأدمنت عليها باسم المكون الواحد، و"الاستحقاق التاريخي!!"، ترفض التخلي عن امتيازاتها السابقة، لذلك رفعوا شعارات التهميش، والعزل والإقصاء ...، وشنوا حملة ضارية لتشويه صورة الديمقراطية، و وصفها بأقذع الصفات، ومارسوا أبشع الإرهاب لوأدها.
وقد ذكرت في مقالات عديدة أن العراقيين أعداء أنفسهم، فأيدني البعض، وعارضني آخرون.
فالمعارضون مازالوا يتبعون سياسة النعامة في دس رأسها في الرمال، ويرون في قول الحقيقة خطر على "الوحدة الوطنية"، ويرددون أن شعبنا متآخي ولم يعرف الطائفية، و لا العنصرية من قبل، وإنما هذه التفرقة جلبها لنا الاحتلال الأمريكي، ويتناسون كيف عامل الحكم البعثي الصدامي الكُرد بالغازات السامة، وجرائم الأنفال، و كذلك استخدام الغازات السامة ضد عرب الأهوار، وسلسلة مقالات صحيفة الثورة البذيئة بعنوان (لماذا حصل ما حصل)، في ذم أهل الجنوب، وضربه قبة مرقد الإمام الحسين في كربلاء، ورفعه لافتة (لا شيعة بعد اليوم)، في تحد صارخ لمشاعر أكثر من 60% من الشعب العراقي، ومئات المقابر الجماعية، وغيرها كثير من الانتهاكات ضد الشعب. فهذه كلها في رأيهم من صنع أمريكا وليست من صنع حكم البعث الصدامي.
والعراقي دائماً ينظر بعين الشك للأجنبي، ويعتبر مساعدته له ليست نزيهة، لغرض نهب ثروات البلاد واستعباد الشعب! وحتى مجرد طرح هذا الموضوع للنقاش يعتبر في نظرهم نوع من العمالة للأجنبي، وقد بلغ بهم الأمر حداً أنه بمجرد الاختلاف معهم في الرأي يقذفونك بتهمة العمالة لأمريكا وإسرائيل، وهذا بالطبع ابتزاز لمصادرة الرأي الآخر. فقادة المعارضة العراقية الذين رأوا في الدعم الأمريكي للشعب ضرورة ملحة لا بد منها للتخلص من حكم البعث الجائر، واجهوا الكثير من الطعن والتخوين، والتحقير، بل وانشقت المعارضة نفسها إلى معسكرين، أحدهما مؤيد للدعم الدولي بقيادة أمريكا، وآخر رافض له بشدة مكتفياً بعقد مؤتمرات ولقاءات في الفنادق الراقية، والتحريض ضد النظام، فكما قال نزار قباني: (نقبع في المساجد تنابلة كسالى... ندعو النصر من عنده تعالى). علماً بأن الجميع كانوا على شبه يقين بأن الشعب العراقي رغم انتفاضاته العديدة وتضحياته، لم يستطع إسقاط حكم البعث الدكتاتوري الجائر، وانتهت كل المحاولات بالفشل الذريع، وبمئات الألوف من الشهداء ومئات المقابر الجماعية، وخمسة ملايين مشردين في الشتات.
وقد استفاد حكم البعث خلال حكمه، و بعد سقوطه من هذه الثقافة الاجتماعية الموروثة الرافضة للدعم الأجنبي، علماً بأن البعث نفسه جاء إلى الحكم بالقطار الأمريكي، كما اعترف بذلك علي صالح السعدي، أحد قادة انقلاب 8 شباط الأسود، إضافة إلى وجود دراسة جامعية أمريكية تؤكد التدخل الأمريكي في إسقاط حكومة ثورة 14 تموز المجيدة، وتصفية قيادتها الوطنية النزيهة، وعلى رأسها الزعيم عبدالكريم قاسم وصحبه الأبرار.(2)
والمفارقة، أن الرافضين للدعم الأمريكي استخدموا دور أمريكا في اغتيال ثورة 14 تموز وقيادتها الوطنية، ذريعة لرفض أمريكا في إسقاط حكم البعث الجائر، وتقديم أي دعم للعراق الجديد في محاربة الإرهاب. وهذا طبعاً يصب في خدمة البعث الفاشي وإبقائه يضطهد الشعب إلى مستقبل غير منظور. فحتى لو اعتبرنا أمريكا عدوة ، أليس من الحكمة توظيف العدو في ضرب عدو آخر يصعب علينا إسقاطه؟ وفق الحكمة: (اضرب رأس الأفعى بيد العدو)؟ ثم هل حقاً أمريكا عدو في كل زمان ومكان؟ أليست السياسة وراء المصالح؟
ولكن كما يقول المثل: "لو خليت قُلبت"، فهناك الكثير من العراقيين المتنورين منفتحين على الدعم الأجنبي لصالح العراق وإنجاح تجربته الديمقراطية ومن أي كان. وفي هذا الخصوص كتب لي صديق:
((للأسف هذا هو قدر العراق وكأنه كُتِبَ عليه دائماً ان ينتكس، والفاعلون المجرمون اليوم هم أنفسهم القوميون والإسلاميون والبعثيون في ١٩٦٣، الذين اغتالوا الزعيم الوطني العراقي الخالد عبد الكريم قاسم، وحرسهم اللا قومي (وهم عراقيون)، يفتكون بالوطنيين الأحرار من العراقيين، وهم عراقيون يجهضون ولادة تجربةً حكم غير مؤدلج ومنفتح على كل القوى الوطنية العراقية. ويأتي البعثيون ثانية لإجهاض تجربة عبدالرحمن عارف وهو عراقي وليس اسرائيلي، ليأتي صدام حسين وهو العراقي يدفع بالعراق و العراقيين الى شن الحروب العبثية ويجوِّع الشعب العراقي ويئن بعدها لأكثر من عقد من الزمن... وعندما تحين الفرصة التاريخية وفيها تلتقي المصالح الاستراتجية لأكبر قوة عسكرية واقتصادية وعلمية وتكنولوجية في العالم، أمريكا، مع المصالح الوطنية العراقية في التخلص من اكبر دكتاتور عرفه العراق والمنطقة، ينبري مرة أخرى هذا النفر الضال والمضلل معه من العراقيين لتبديد هذه الفرصة التاريخية وهي لا تأتي إلا نادراً. والآن ما ان يشرق ضوءً في نهاية النفق دلالة نهوض منتظر للعراق.. حتى ويشمر مرة أخرى هذا النفر من أبناء العراق عن سواعدهم لحجب هذا الضوء القادم من الطرف الاخر من الأطلسي.)) انتهى.
كما وذكرت في مقدمة مقالي الموسوم (حول زيارة العبادي لأمريكا)(3)، "أن العراقيين أعداء أنفسهم"، فكتب لي صديق آخر في هذا الخصوص قائلاً: ((فعلا اخي الفاضل، العراقيون اعداء انفسهم بل ويعينون اعداءهم ... ألا يرون اسرائيل المسنودة، دعما وتسليحا وإعلاما من قبل اميركا والغرب، ومع ذلك توثق علاقتها بروسيا، وتتواصل مع الروس باتفاقيات سنوية، وزيارات تكاد تكون اسبوعية، وتعقد الاتفاقية تلو الأخرى؟!. ثم اذا كانت دول كبيرة ومستقرة تحرص على توثيق علاقاتها بأميركا وتبرم معها الاتفاقيات وتقيم القواعد حفاظا على مصالح اوطانها وشعوبها، فلماذا يستكثر ويستنكر على حكومة العراق اقامة مثل هذه العلاقة؟ السيد نوري المالكي اضطر تحت ضغوطات الاحزاب التي تدعي محاربة الاحتلال ودمرت العراق بتفجيرات مرتزقتها، وتحت ضغوطات تيار الفوضى الصدري وجميع شركاء العملية السياسية، ولم يقف معه احد من الاحزاب الشيعية والسنية والكوردية، فأراد ان يسقط حججهم الواهية مضطرا لإخراج الأمريكان، ودفع الثمن تضحيته باستحقاقه الانتخابي، فأسقطوه عن طريق داعش)). انتهى.
و الآن جاء الدكتور حيدر العبادي، مستفيداً من تجارب الذي سبقوه في منصبه الذي لا يحسده عليه أحد، فحاول تصحيح الأمور، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من هذا العراق، والعمل وفق مبدأ (السياسة فن الممكن)، و (ليس في السياسة أعداء دائمين ولا أصدقاء دائمين، بل مصالح دائمة)، مرة أخرى هب الدوغماتيون المؤدلجون بالصراخ والعويل بأنه باع العراق على أمريكا من أجل المنصب، ويطالبونه بالمستحيل. فالكل يعرف أن الشعب العراقي ممزق، والوحدة الوطنية لا وجود لها إلا في مخيلة الطوباويين الذي يتصورون العراق كما يشتهون ويرغبون، وليس كما هو في الواقع المرير المنشق إلى 700 حزب، وعشرات الكتل السياسية المتناحرة، وكل منها على استعداد تام للتعاون مع الشيطان من أجل إلحاق الهزيمة بالخصوم وتدمير العراق.
فمنهم من يطالبه بمقاطعة إيران لأنهم فرس مجوس، وآخرون يطالبونه بمقاطعة أمريكا وتركيا والسعودية، والأردن... والعبادي في هذه الحالة يريد أن يلعب لعبة التوازنات ليطفئ الحرائق.
وكسياسي تعلم من خيبات الذين سبقوه، فلا بد أن يتبنى لغة دبلوماسية في مخاطبة الآخرين، خاصة عندما واجه الصحفيين في زيارته الأخيرة الناجحة لأمريكا، فأجابهم على أسئلتهم قائلاً: (العراق ليس تابعاً لإيران، والسعودية ليست إرهابية)(4). فأقاموا الدنيا عليه ولم يقعدوها. فأتباع إيران استنكروا عليه قوله عن تبرئة السعودية من الإرهاب، لأن الكل يعرف أن السعودية هي وراء جميع الأعمال الإرهابية، ليس في العراق فحسب، وإنما في جميع أنحاء العالم. كذلك ثارت ثائرة عملاء السعودية وأيتام البعث والعروبيين، فاستنكروا عليه نفيه للنفوذ الإيراني في العراق، وهم يصرخون ليل نهار أن العراق أصبح مستعمرة إيرانية، لأنهم يريدون منه أن يتبنى سياسة صدام حسين الطائفية العنصرية ضد إيران "الفرس المجوس"، تلك السياسة العدوانية الطائشة اتي جلبت الكوارث على العراق.
فقوله عن إيران صحيح، لأن العراق ليس تابعاً لإيران، وإنما تربطه بها علاقة صداقة وحسن الجوار، وقدمت إيران الكثير من المساعدات للعراق في مختلف المجالات، أهمها محاربة داعش وغيرها من التنظيمات الإرهابية، وليس بإمكان العبادي أو غيره أن يغير الجغرافية والتاريخ.
أما السعودية، فرغم علم العبادي بدورها في الإرهاب، إلا أن السياسة ومصلحة العراق تتطلب منه أن يتحدث بلغة دبلوماسية، خاصة بعد أن بادرت السعودية في الآونة الأخيرة بالانفتاح على العراق وتغيير سياستها العدوانية السابقة الفاشلة. والتاريخ يخبرنا أنه حتى النبي محمد (ص)، استخدم مثل هذه اللغة، فعند فتح مكة قال: (من دخل بيت أبي سفيان فقد آمن). وهذا من أرقى الأوسمة التي منحها الرسول إلى ألد عدو له. فهل كان الرسول لا يعرف من هو أبو سفيان؟ ولكن الوضع السياسي الجديد تطلب منه أن يقول هكذا. فلما نستكثر على العبادي قوله بحق السعودية عندما تتطلب المصالح السياسية ذلك؟ خاصة وعندما يقول ملك السعودية للعبادي: (مستعدون لتعزيز العلاقات مع العراق في جميع المستويات)(5).
نعم بإمكاننا نحن ككتاب، و الإعلاميين، أن نقول ما نشاء بحق أية حكومة أو جهة أو شخص، وفي حدود ما تسمح به قوانين النشر، ولكن السياسي لا يستطيع ذلك. وعليه، فالمطلوب من المخلصين أن يدركوا أن العراق وهو يمر بأخطر مرحلة تاريخية عاصفة، ليس بإمكانه أن يحارب على عشرات الجبهات، بل من مصلحته أن يكسب الجميع إلى جانبه وهو يخوض أخطر حرب شرسة نيابة عن كل العالم ضد أبشع تنظيم إرهابي متوحش يهدد الحضارة البشرية.
ولا أعتقد وجود بضعة آلاف من القوات الأمريكية يسئ إلى السيادة الوطنية، فلو كان الأمر كذلك، لكانت غالبية الدول الأوربية، واليابان وكوريا الجنوبية بلا سيادة، لأن فيها قواعد عسكرية أمريكية. فأيهما أكثر إساءةً للسيادة الوطنية، وجود قوات من دولة عظمى صديقة تربطنا بها علاقة اتفاقية الإطار الإستراتيجي لحماية العراق من أي عدوان خارجي، أم احتلال ثلث مساحته من قبل أسوأ عصابات الإرهاب المتوحش؟
لذلك أهيب بالسيد العبادي أن يستفيد من الخطأ الذي وقع فيه سلفه عندما أذعن لمعارضيه فأصر على إخراج آخر جندي أمريكي، فواجهوه بداعش واحتلال ثلث العراق. واليوم أمريكا تقود التحالف الدولي لمساعدة العراق في سحق داعش. وعليه أن لا يعيد خطأ سلفه، وإلا سيعيدون داعش وتحت اسم آخر، وهكذا ستعاد الدورة في حروب إستنزافية مع الإرهاب والتضحية بالمزيد من الأرواح وتبديد الثروات الاقتصادية في حروب لا تعرف لها نهاية.
ــــــــــــــــــــــــــــ
روابط ذات صلة
1- الدكتور عبدالخالق حسين: الخراب البشري في العراق
2- ويليام زيمان: التدخلات السرية الأميركية في العراق، خلال الفترة 1958- 1963. (رسالة ماجستير من جامعة كاليفورنيا/أمريكا).
3- د.عبدالخالق حسين : حول زيارة العبادي لأمريكا
4- العبادي: العراق لا يتبع لإيران والسعودية ليست إرهابية
5- ملك السعودية للعبادي: مستعدون لتعزيز العلاقات مع العراق في جميع المستويات