القمص بيشوي كامل .. شمعة مُضيئة تحترق!
ليديا يؤأنس
٤٩:
٠١
م +02:00 EET
الخميس ٢٣ مارس ٢٠١٧
بقلم: ليديا يؤانس
مِثل الشمعة التي تحترق لتُضئ الزمان والمكان ..
مِثل الشمعة التي تحترق لتُعطي إستنارة لكل من يُريد أن يعيش في النور ..
مِثل الشمعة التي تحترق ليس من أجل نفسها ولكن من أجل الآخرين ..
كذلك القمص بيشوي كامل، كان شمعة فتيلها مُشتعل من لهيب صليب المسيح، كان شمعة مُلتهبة من أجل المسيح وكل الناس، كان شمعة مُضيئة تحترق من أجل الكنيسة، من أجل الخدمة، من أجل المرضى، ومن أجل الذين ضلوا الطريق.
القمص بيشوي كامل إتولد في السادس من ديسمبر 1931، في دمنهور محافظة البحيرة، وكان اسمه قبل الكهنوت، سامي كامل اسحق أسعد.
الأستاذ سامي، بدأ خدمته في سن السابعة عشر، ووصفوه بالطاحونة التي لا تتوقف أبدًا عن العمل، ففي بعض الأوقات كانوا يشاهدونه نائمًا علي سلم الكنيسة من شدة الإرهاق!
الأستاذ سامي كان يريد أن يسلك في الرهبنة، ولكن الرب كان له مشيئة أخري، ففي يوم 18 نوفمر 1959، أخذ تلاميذه من مدرسة التربية، وذهب لأخذ بركة البابا كيرلس السادس بالمرقسية في الأسكندرية، وكانت المفاجأة!
كان البابا كيرلس يتناقش مع القمص مينا اسكندر، حول قطعة أرض علي خط الترام في اسبورتنج بالأسكندرية، كانت قد اشترتها البابوية القبطية، لإقامة كنيسة عليها باسم مار جرجس، وكان رأي البابا؛ أنه لا يستطيع الشروع في بناء الكنيسة قبل رسامة كاهن خاص بها، وقبل أن ينتهي من حديثه، فوجئ بدخول سامي للبطريركية، فهتف القمص مينا علي الفور: هذا هو الشاب الذي يصلح لأن يرعي شعب كنيسة مار جرجس.
بعد أن تحدث البابا مع الأستاذ سامي، وضع الصليب علي رأسه وقال: أنها علامة مُعطاة من الله أن تصبح كاهنًا وسأرسمك الأحد المُقبل.
كانت مفاجأة للأستاذ سامي، وقال للبابا، "ولكنني لستُ مُتزوجًا"!
رد عليه البابا، "الروح القدس الذي ألهمني إلي اتخاذ هذا القرارهو يختار لك العروس".
وهكذا حدث أن الروح القدس، أرشد الأستاذ سامي إلي العروس، "انجيل باسيلي"، لتتم صلوات الأكليل في 24 نوفمبر 1959.
وأخيرًا تمت سيامته كاهنًا، باسم بيشوي كامل، في يوم الأربعاء 2 ديسمبر 1959 علي مذبح كنيسة مار جرجس باسبورتنج بالأسكندرية، ثم بدأ في إنشاء الكنيسة!
أبونا بيشوي كانت خدمته، مُلتهبة مُوهوجة بنار الصليب، كان شمعة مضيئة تحترق من أجل الكنيسة والخدمة.
أبونا بيشوي كان صاحب السبق في انشاء حضانة للأطفال داخل الكنيسة، ومن ثم انتشرت هذه الظاهرة في معظم الكنائس.
أبونا بيشوي كان عنده غيرة مُلتهبة علي الخروف الضال.
ففي ذات يوم سمع عن فتاة، كانت تنوي الذهاب مع شخص غير مسيحي لتُنكر ايمانها وتتزوجه، ذهب وراءها سريعًا ليمنعها من اتخاذ هذه الخطوة، وجدها تركب سيارة هذا الشخص، وقف في وسط الشارع يتحدث معها ليُثنيها عن عزمها، أدار الشاب السيارة ليمنع أبونا من الحديث مع الفتاة، بدأت السيارة تتحرك، أمسك أبونا في شباك السيارة ومازال يتحدث مع الفتاة، أسرع الشاب بالسيارة وأبونا مازال مُتعلقًا بالشباك، وجسده يتجرجر ويتسحل في شوارع الأسكندرية، رق قلب الفتاة لما يحدث لأبونا بسببها، طلبت من الشاب أن يوقف السيارة، نزلت من السيارة، ورجعت مع أبونا، رجعت مرة أخري لحضن المسيح.
بالرغم من غيرة أبونا علي أولاد المسيح ومحبته لهم، إلا أنه أيضًا كان مُحبًا لكل الناس بغض النظر عن عقائدهم!
كان يوجد فكهاني غير مسيحي، في الشارع الذي يسكن فيه أبونا، كان الفكهاني كل مايشوف أبونا يبصق عليه، وفي يوم أبونا لم يجد الفكهاني ووجد ابنه بدلًا منه، فساله عن ابيه، قال له؛ انه بالمستشفي يعمل عملية جراحية.
أخذ أبونا هدية وذهب لزيارته، وبعد أن خرج من المستشفي صارت صداقة بينها، وطلب الفكهاني من أبونا ان يقوم بزيارتهم في المنزل ويحدثهم عن المسيحية، ثم تطورت الأحداث بقوة عمل الروح القدس، ثم ذهب الفكهاني وابنه إلي الدير!
أبونا دائما كان يشعر انه ليس ملك نفسه وكذلك كل ما يملك!
فكان منزل أبونا مفتوحًا بشكل دائم، سواء في الأعياد أو الأيام العادية، لإستضافة الغرباء والمحتاجين والذين عندهم مشاكل من أي نوع، كانوا هُمْ وأبونا بيشوي وطاسوني أنجيل، يعيشون تحت سقف واحد كأسرة واحدة يأكلون ويشربون اللي موجود في البيت، وكان دائمًا يمزح مؤكدًا علي أن زوجته لا تعرف الطهي، فكان من يتبرع بالطهي من الضيوف، ومن يتبرع بالتنظيف، المُهم الكُل يعيش بمحبة تحت هذا السقف المبروك إلي أن تتحل مشاكلهم فيرحلون ويتركون أماكنهم لمن يحتاج ضيافة.
القمص بيشوي كامل، كانت لديه إشتياقات حتي قبل أن يُصبح كاهنًا، اشتهى أن يموت عن العالم ويأخذ طريق الرهبنة، إشتهى أن يجوز في الآمات الصليب، اشتهى أن يحمل صليب المسيح، اشتهى أن يذوق بعضًا من العذابات التي جاز فيها المسيح علي الصليب، اشتهى أن يذهب سريعًا لحضن المسيح فكان يرى أن ذلك أفضل جدًا!
اشتهى أن يمرض بالسرطان ليشارك مرضى السرطان الآماتهم!
لقد كان أبونا بيشوي مُتعاطفا جدًا مع مرضى السرطان، دائم الزيارات لهُمْ، والصلوات من أجلهُم، وهو الذي أطلق علي هذا المرض اسم "مرض الفردوس"، لأنه من وجهة نظره، أن من يمرض بهذا المرض، ستكون أيامه قليلة علي الأرض، وإن كُنت أنا لا أتفق مع أبونا في هذا التفسير، لأن عمر الإنسان ليس له علاقة بمثل هذه الأمور، ونحن نسمع الآن عن بعض الناس عاشوا عشرات السنوات بهذا المرض سواء أخذوا علاج أم لا!
الغريب أن أبونا بيشوي اشتهى هذا المرض وطلبه من الرب، والرب استجاب لشهوة قلبه، وقد كان، فبدأ معه المرض من أغسطس 1976، وتنيح في 21 مارس 1979، عن عمر يناهز الثمانية والأربعون عامًا.
أبونا بيشوي أصيب بالمرض في الفقرات العُنقية، فكان الألم شديدًا جدًا غير مُحتملًا، ولكنه كان يأخذ الألم بفرح، كان أحيانا لا يستطيع النوم أو الوقوف أو الجلوس، وكان ينظر إلي خصلات شعره المُتساقطة بسبب العلاج الكيماوي ويقول "إن شعرة واحدة لا تسقط بدون اذن أبينا الذي في السموات"!
أبونا ظل سنتين يعاني من المرض، السرطان أثر علي، ظهره، وذراعه الشمال، ووقفت عضلة العين اليمني، وعضلة الرئة اليمني، وكان دائمًا يقول: أشكرك يارب أنني موضع اهتمامك!
في يوم طلب منه أحد الأشخاص أن يذهب معه لزياره مريض في مستشفى خارج الأسكندرية، حاول الإعتذار لأنه بسبب المرض لا يستطيع قيادة السيارة، أخذه هذا الشخص إلي المستشفى، أغمض عينيه ووضع يده علي رأس المريض وصلى، بعد فترة جاء الشخص الذي كان مريضًا ليقول لأبونا أنه هو الشخص الذي صلى له في المستشفى، وأخبر أبونا بانه كان مُصابًا بالسرطان في المُخ، وحينما وضع أبونا يده علي رأسه، شعر بشئ غير عادي خرج من رأسه، وبعد ذلك عمل له الأطباء أشعات وفحوصات فوجدوا أنا شُفي تمامًا!
برغم كل الآلام الجسمانية إلا أنه لآخر لحظة من عمرة، كان كالشمعة المضيئة التي تحترق من أجل الكنيسة والخدمة!
ولكن قبل أن يتنيح ب12 يومًا، اشتد عليه المرض، وأصبح غير قادرًا علي، أن يقف أو يقعد أو ينام، طلبت منه زوجته أن يُصلي لكي يخفف الرب عنه الألم، لكنه لم يستحسن كلامها، اعتبر أنها تحاول أن تقلل من البركة التي ينالها بسبب صليب المرض!
قبل أن يموت قال، "أنا نفسي أتكلم فقط في هذا اليوم"، وكان ذلك اليوم قبل عيد الصليب بيومين، تحدث كثيرًا عن الصليب، وعن قوته، وعن قوة عمل الصليب الخلاصي المُحيي.
دعوني أختم هذه السيرة العطرة للقمص بيشوي كامل، بهذه القصة التي قد يعتقد فيها البعض، والتي قد يسخر منها البعض الآخر!
يحكي أب راهب أنه في يوم ما، أُخذ في الروح، وذهب إلي البرية الجوانية، فوجد نفسه مع مجموعة من السواح، ثم حضر قس، وأقام لهم قداسًا وناولهم، وكان هذا القس هو أبونا بيشوي كامل!
تذكرت أنا، ما حدث معي مُنذ 18 عامًا، وكان ذلك في فترة الصوم الكبير، وفي هذه الفترة غالبًا ما يقوم الكهنة بعمل صلوات في المنازل، بناءًا علي طلب الناس، وتُسمي هذه الصلوات، "صلاة القنديل"، ليس هنا المجال للحديث عن هذه الصلاة!
بالنسبة لي، في معظم الأوقات إذا احتجت لشئ من الكنيسة، يكون ذلك من خلال الأب القمص المسئول عن الكنيسة، ولكن في ذلك اليوم أردت عدم إزعاج القمص لكثرة مسئولياته، فاتصلت بأحد الكهنة ليحضر لعمل "القنديل" عندنا بالمنزل، تعلل الكاهن بتعليلات غير منطقية، ربما كان يريد أن يستأذن من الأب القمص، أنا رديت علي الكاهن بزعل "خلاص مش عايزة قنديل"!
وحولت الغضب الذي بداخلي علي المسيح وقلت له، "أنا غلطانه إني طلبت مِنهُم هذا الطلب"!
ونمت في هذه الليلة، وإذ بي أري في حلم، كاهن ماسك شورية (الشورية هي إناء نحاسي مثل نصف الكرة ويكون فيها الفحم والبخور والتي يستخدمها الكهنة للتبخير في الكنيسة)، وهذا الكاهن كان يلف في منزلي يُبخر وخاصة في حجرة النوم، تيقنت أن هذا الكاهن، هو أبونا بيشوي كامل، بالرغم من أنني ليس لدي سابق معرفة به، وكان مُرتديا الملابس البيضاء الكهنوتية التي يلبسها الكهنة في القداس.
حوالي الساعة السادسة صباحا دق جرس التليفون وإذ بالأب القمص المسئول عن الكنيسة، يُخبرني بأنه قادم الآن ليعمل "قنديل" لي قلت له؛ "أنا المسيح خلاص عمل لي القنديل، ومش عايزة حاجة"، صمم أبونا القمص وقال؛ "أنا خدام المسيح ولازم آجئ لأعمل لك صلاة القنديل"، وجاء بالفعل وعمل صلاة القنديل.
هذا هو أبونا بيشوي كامل، الشمعة التي أضاءت للجميع واحترقت هي، من أجل محبة المسيح وشعب المسيح.