ساندى إدوارد
بين مطرقة التطرف وسندان الدولة عاش مسيحيو مصر عقودا طويلة تجرعوا خلالها كل صنوف الآلام المرة وتقرّحت جفونهم من حرارة دمع مسكوب يكوي القلوب قبل الخدود ، وتوجعت جنوبهم من ظلام ليل طويل لا ينجلِ وجثمت على صدورهم المتاعب والهموم، وعلى عرش إرادتهم تربعت المهانة، وصم آذانهم صوت أنين الشهداء وانكسرت نفوسهم مع توسلات الأبرياء وانسحقت أرواحهم وهم يجمعون شتات الأشلاء .

       فالمسيحيون في مصر أشبة بورقة الجوكر التي يلجأ إليها أحد طرفي اللعبة كي يتقدم  على الطرف الآخر ولو مؤقتا لحين ترتيب باقي أوراقه، فكلما لعب طرف ورقة ولم تأت بالثمر المرجو منها، سارع بلعب ورقة أخرى. ولما لم يصل إلى نتيجة بعد فقدانه آخر أوراقه يلجأ إلى استخدام ذلك الجوكر الحاسم الذي يتوقع منه أن ينهي تلك الموقعة لصالحة.   والدولة في حربها الطويلة الأمد على التطرف والمتطرفين لم تكن تجيد فن ترتيب الاوراق فكانت تستخدم  كل الأوراق الامنية باليد اليمنى ويتم الإفراج عنهم  باليد اليسرى والنتيجة انهم يخرجون بعد أسابيع قليلة وقد أيقنوا قلة حيلة الدولة ورسخت في أذهانهم عقيدة مفادها أن الدولة لا تكترث كثيرا بما يفعلون  طالما لم يسعوا إلى ما من شأنه تهديد نظام الحكم .  فينقضون بمعاول الهدم والخراب على المجتمع عابثين في هيئاته ونقاباته ومنظماته وجامعاتهاستعدادا ليوم مشهود لا تدركه الدولة ، 

ولو كانت الدولة تجيد فن التعامل الجاد والجريء مع التطرف الديني والذي يسري كالسرطان في جسد الأمة لكانت لجأت وبجرأة وجدية وصدق إلى تنقية الخطاب الديني من النعرات الطائفية ولم تسمح للعديد من الحناجر أن تعتلي المنابر لتكفر الآخر  وتشق الصف الوطني وتغذي نار الكراهية والتعصب الاعمى ميقظة الفتن النائمة ... نعم ، لم تلجأ الدولة جادة حتى الآن – وإن لمحت إلى ذلك على استحياء – إلى الحد من لهجة خطاب ديني يدعو إلى العنصرية والتمييز الطائفي والاخلال بمبدأ المواطنة ، وعليه فهي تستهلك أوراقها ورقة تلو الاخرى دون تقدم يذكر، فلا تجد أمامها سوى الجوكر وهو " ورقة المسيحيين " بحيث تقف موقفا سلبيا يتعارض ومبادئ دولة القانونظنا منها ( بسذاجة ) انها بهذا يمكنها إرضاء المتطرفين ، فتغض البصر عن المسيحيين وتدعهم يتلقون الطعنات من الخلف وتتركهم يلعقون جراحهم ، بل وغالبا ما تضيق عليهم في أمور عباداتهم وعقيدتهم  علَّ  ذلك يشف من في قلوبهم مرضفيخففون من وطأة حربهم ضد النظام وعلًه أيضا ينفي عن النظام وصمة الكفر التي يوصمه بها المتطرفون الاسلاميون كل عشية وضحاها ، وقد تجلى لعب الدولة بورقة المسيحيين في احداث عدة لعل أهمها أحداث الزاوية الحمراء والتي قال عنها شهود العيان أن رجال الشرطة كانوا يشعلون سجائرهم من نار الحرائق المندلعة في منازل المسيحيين بلا ادنى مبالاة وكانوا يقفون موقف المتفرج امام السلب والنهب للممتلكات ثم تلاها لا مبالاة الرئيس السادات نفسه بالأمر حينما ذكر العملية الحسابية المعقدة  التى كانت خافية على الجميع إلّا هو والنبوى اسماعيل " سبعة وتسعة " كما لم يبال بالأسباب الحقيقية وراء تلك الأحداث واختزلها في مقولته المضحكة المبكية " مية غسيل مش ولا بد " . 

ولم تكتف الدولة بما حدث لمسيحييى الزاوية بل اودعت بابا الاقباط في اقامة جبرية بعد قرار الغاء تعيينه من فوق منبر مجلس الشعب الذي التهبت أيادي أعضاءة  بالتصفيق الحاد للقرار  "الغبي" ،مما أثلج صدر السادات وظن أن ورقة الجوكر التي لعبها قد أدرك بها الفوز بعد هزائم داخلية متتالية . وقد تجل دور الدولة في اللعب بورقة الجوكر مرة أخرى في حادثة الاعتداء على الكاتدرائية المرقسية بالعباسية ، فقد ظل المتطرفون إبان عهد محمد مرسي  يلقون قنابل المولوتوف على أهم وأكبر رمز للمسيحيين المصريين  وذلك على مدار ليلة كاملة على مرأى ومسمع من رجال الشرطة دون أن يتحرك لهم ساكن، فقد ظن مرسي أن بهذه السلبية الواضحة سيرضي السلفيين ويحول قلوب المعترضين الذين كانوا يتزايدون يوما بعد يوم .

   وعلى الجانب الآخر فإن مطرقة الإرهاب والتشدد كانت هي الأخري تدرك جيدا اهمية " الجوكر" وتحتفظ به لكي تضرب ضربتها القاضية إذا ما فشلت أوراقها الأخرى في تحقيق ما تصبوا إليه من نتائج ، فقد استخدمت الجماعات الاسلامية المتطرفة ورقة  استهداف رجال الشرطة من الضباط الكبار ولا يخفى على أحد ماأقدموا عليه في مديرية أمن أسيوط وقتلهم عددا كبيرا من الضباط بالاضافة إلى استهدافهم لكمائن الشرطة في كل مكان، ولما لم تجد ورقة قتل الضباط نفعا مع الدولة لجأ الارهاب إلى الضغط اقتصاديا بمحاولة ضرب قطاع السياحة  وقتل السياح في الأقصر وخطف بعض السائحين من أماكن اخرى . ولكن أدرك الإرهاب ان قتل رجال الشرطة وضرب السياحة التي يترزقمن عوائدها ملايين المصريين  لن تزيد الشعب الّا التفافا حول النظام ، فما كان منه إلًا أن يلقى بورقة الجوكر التي ييقن تمام اليقين ان اللعب بها سوف يؤلب فئة وطائفة كبيرة منظمة من الشعب على نظام الحكم ، فبدأ بالاعتداء الممنهج على المسيحيين فينهب منازلهم ويسلب محلاتهم ويسطو على ممتلكاتهم يخطف فتياتهم القصر وغير القصر بل ويهدم ويحرق  كنائسهم رغم أن المسيحيين لم يكونوا يوما طرفا في اللعبة السياسية على مر عقود طويلة . كان الهدف هو إظهار الدولة بمظهر هش لا يقوى على حماية ابناءة من ناحية ومن ناحية اخرى حتى يزرع بذور فتنة طائفية يرويها الجهل ويرعاها التخلف حتى إذا ما نشبت أكلت في طريقها الأخضر واليابس.

 وما يحدث في العريش من قبل داعش تجاه المصريين المسيحيين ما هو إلا " الجوكر " الأخير الذي يلقون به على خارطة الصراع بعد أن رأوا أن ضرب السياحة و قتل الجنود المصريين مسلمين ومسيحيين   وتشييع الجثامين من ابناء مصر البررة كل يوم واستقبال الأسر لشهدائها بقلب راض  لم يجد نفعا ولاسيما حينما يسمعون والدة الشهيد تقول أن لو كان لديها اولادا  أخرين لكانت بعثت بهم الى جبهة القتال

أمثال الدواعش يتغلغلون في قرى مصر ومدنها على طول البلاد وعرضها ، فالمتاجرون بأعضاء الأطفال هم دواعش ، وأصحاب فتاوى التكفير هم دواعش ، ومن قاموا بقتل الابرياء وسحلهم والتمثيل بجثثهم في الشرقية هم دواعش ، ومن يقومون بخطف البنات والاعتداء عليهن ثم اجبارهن على تغيير معتقدهن هم دواعش ، ومن يقدمون على تعرية سيدة مسنة في الشارع  هم دواعش .ومن يبثون عوامل الفرقة بين المواطنين على أساس الهوية الدينية  هم دواعش ، ومن يفجرون أبراج الكهرباء ويضعون القنابل في المدارس هم دواعش . ومن يقتلون رجال الشرطة وهم يؤدون رسالتهم من المؤكد أنهم  لا يختلفون عن الدواعش .

  وكأن قدر المصريين المسيحيين أن يكونوا دائما بين مطرقة الإرهاب وسندان الدولة وبين حجرى الرحى فلا يستطيعون تليين الحجر السفلي أو إيقاف الحجر العلوي ، قدرهم دائما أن يكونوا ورقة تستخدم في السراء والضراء رغم أنهم طالما ضربوا أروع الأمثلة في الوطنية ونكران الذات .