مجموعة أحمد الخميسي " أنا وأنتِ " .. وذلك الكائن الصغير
السبت ١١ فبراير ٢٠١٧
يفتتح د. أحمد الخميسى مجموعته القصصية الجديدة " أنا وأنتِ"- الصادرة عن دار "كيان", والحائزة أخيراً على جائزة «ساويرس» فى القصة القصيرة، فئة كبار الكتاب- بإهداء هو جزء لا يتجزأ من العمل الإبداعى الذى يقدمه: "ثمة كائن صغير أشعُر بلمس قدميه فى قلبى".. وفى نهاية الإهداء يمنح ذلك الكائن اسماً: «أمل». ويتكرر الاسم فى قصة «بيت جدى» (من سيرة الخميسى الذاتية)،
ليكون اسم والدة بطلها الطفل؛ وفى قصة «خطوبة», حيث «أمل» هى العروس الشابة. وفى أول قصتين فى المجموعة يتردد معنى الأمل ونغمته العذبة, أمام فاجعة الفقدان الشخصى (القصة الأولى: «أنا وأنت»)، أو إزاء الضياع الجماعى، فى القصة الثانية الرمزية «روح الضباب». ولعل هذا يعطينا فكرة عن طبيعة هذه المجموعة القصصية، حيث هناك خيط ينتظمها؛ إلا أننى يجب أن أضيف هنا أن هذا العمل يتصف فى نفس الوقت باتساع قماشته إلى درجة نادرة الحدوث. فإلى جانب القصة القصيرة الكلاسيكية: حيث الموقف المكثف أو «اللحظة» القصصية والسياق المعاصر ( كما نجد فى قصص:أنا وأنت - روح الضباب - وجه، على سبيل المثال)؛ هناك أيضاً القصة الطويلة ذات المادة الروائية المعتمدة على السيرة الذاتية (بيت جدى)، أو غير المعتمدة عليها (أليونا)؛ والحكاية ذات البعد الأسطورى (النور، سماء ضائعة)، أو المستندة إلى الشعر الأوروبى الكلاسيكى (طرْح القلب، المستمدة من فكرة التحول من كائن إلى آخر، التى هى أصلاً جزء من التراث الأسطورى الإغريقى، والتى أفرد لها أوڤيد الشاعر الرومانى ديواناً من الشعر القصصى بعنوان "metamporphosis” أو «المسخ» فى بعض الترجمات العربية، وأفضِّل لها عنوان «تحول الكائنات»)؛ وهناك أيضاً قصة هى أقرب ما تكون لقصيدة النثر المعاصرة («سأفتح الباب وأراكِ يوماً»)؛ وقصة «باليرمو» الأقرب إلى الريبورتاچ أو أدب الرحلات الصحفى؛ و«ليلة بلا قمر» التى تشبه فى جوها مسرحية من مشهد واحد. إلا أنه فى كل هذه الأشكال، التى هى توزيعات موسيقية متنوعة للحن أساسى متكرر يذهب ويعود، نحن أمام تيمة رئيسية- وإن لم تكن وحيدة- هى الأمل.
والقصة الأخيرة «طرح القلب» تشخِّص هذا الأمل وتعيِّنه، لكن تلميحاً لا تصريحاً، كما سنرى. هذه نظرة عامة لا تُغنى عن الحديث عن بعض قصص المجموعة بشكل أكثر تفصيلاً: فى القصة الأولى «أنا وأنتِ» يلعب الخميسى على «الغياب فى صورة الحضور»، أو العكس؛ فلا نتأكد طوال الوقت هل المحبوبة الجالسة أمام الشخص المتحدث بضمير المتكلم، والتى يوجه لها حديثه، حاضرة كالغائبة، أم غائبة كالحاضرة. هل رحلت ولا يرى المتكلم إلا طيفها وسرابها، أم أنها تهجره بشرودها عنه رغم حضورها بالجسد؟ والسطر الأخير فى القصة يأخذنا لاحتمال ثالث: «فقط لو تقولين لى من منا الذى مات ولم يعد يرى الآخر!». فكأن غياب المحبوب، بالفكر أو بالجسد، هو موت للمحب العاشق. لكن يظل الأمل قائماً فى قلب المتيم بأنه يوماً ما سيتوحد من جديد بالمحبوب (انظر أيضاً القصة القصيدة «سأفتح الباب وأراكِ يوماً»).
وفى قصة «روح الضباب» يشبُّ غصن الأمل ويمتدُّ مخترقاً الغيم الترابىّ الدخانىّ الملوّث, طالباً الزرقة والأكسچين النقىّ، فى بيئة قومية طاحنة يعالجها الكاتب رمزياً. وتظل المرأة هنا مرتبطة بالأمل، كأنيس للرجل المصمم على مواجهة القبح الخماسينىّ لربيع فشل فى الإزهار، ولو مؤقتاً. فيتساند الرجل والمرأة فى نهاية القصة فى طريقهما لمواجهة الشوارع الموبوءة. وفى القصة الأخيرة «طرح القلب»، يتحول الرجل- الذى كان نائماً فصَحا على أريج عطر، أدرك بالتدريج أنه يخرج منه- يتحول لشجرة مزهرة تضرب جذورها فى حديقة المنزل، ويغيب وعيها البشرى ليصير ضمير نباتٍ مزهرٍ ذى عبير يبعث النشوة فى زائريه ويحفزهم لمطاردة الجمال فى كل مجال، إلا أن الخميسى يتحسّر فى آخر سطر, على أن تلك الحديقة ، التى هى مزهرة ما تزال، «البعض يعبر الآن بجوارها مسرعاً فلا يراها». والقصة فى اعتقادى تتحدث عن «الحل الجمالى»، أوالجمال كخلاص وحيد متاح لمن ينتبه لقيمته كشفاء للروح ، فى وجه واقع يتناحر فيه الناس باسم «الحق» و«الخير». «طرح القلب» هى خير نهاية لهذه الوليمة الأدبية، ومسك ختام لمائدة العطور الحافلة التى يقدمها الخميسى لضيفه فيخرج مترعاً محتشداً بالجمال؛ بذلك الأمل الوحيد المتاح للإنسانية الذى يطارده أحمد الخميسى من أول سطر فى عمله الفّواح بالأريج.