بقلم: سامي ابراهيم
الثورة تعني التغيير، تغييراً للقيم وتغييراً للمفاهيم، هي رمي الثوب القديم المرقع البالي لمجتمعٍ طامحٍ في التغيير واستبداله بثوب جديد يعبر عن هيئة جديدة وشكلٍ جديدٍ لشعبٍ ملّ القهر والقمع والاستبداد والفقر والمرض والجهل. الشعب المصري شعبٌ لا يملك مقومات الديمقراطية والحرية، وثورته هذه وفورة غضبه على الرغم من أنها حركة فريدة ومميزة وستذكرها الأجيال لسنوات طويلة، لكنها ثورة فوضوية، غير مقادة وغير موجهة، إنها ثورة لا تتعدى كونها تذمر من الاضطهاد الذي يعانيه الشعب من قبل النظام الحاكم. ثورة الشعب المصري المنتفض هي ثورة فوضوية قائمة في أساسها على معارضة النظام. لا يملك الفوضوي أي تصور عميق وواعي للأمور، إنه يهاجم النظام الحاكم بوصفه أداة قمع بجهازه الأمني والـــــ مخابراتي. لذلك فالفوضوي لن يصل لنتيجة من أعماله رغم شجاعتها وجرأتها، وفي النهاية فإنه سيضر نفسه قبل أن يضر أحدا في السلطة، فثورته الفوضوية أوقفت الأعمال والأشغال، وشلت الحياة الاقتصادية، لقد انهارت عملته، وتوقفت الحركة السياحية في أشهر بلد وأقدم حضارة لشهور عديدة كانت تدر ملايين الدولارات واليوروات وتؤمن آلاف الوظائف لشعب يبحث معظم شبابه عن عمل. إنها ثورة يتم فيها عمليات نهب وسرقة من قبل شعب يعيش السواد الأعظم من سكانه تحت خط الفقر. لكن لماذا لا يملك الشعب المصري المقومات التي تجعله مستعدا للديمقراطية؟ لماذا لا يملك الشعب المصري المؤهلات لكي يصل لمفهوم الديمقراطية بمعناها الوحيد، ويصل لمجتمع ديمقراطي تسوده العدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؟ لأنه بكل بساطة شعب متدين. فالدين هو الذي يشرّع لقيام أنظمة مستبدة مستغلة ديكتاتورية، لأنه يبارك ويمجد أولئك الموجودين في الحكم، فالدين بالأصل وجد ليوطد سلطة الحاكم ويعطيه امتيازات إلهية. الشعب المصري شعب متدين، تسممت أفكاره على مدى قرون طويلة، عاش خلالها في كنف تعاليم دينية غرزت عميقا في تلافيف دماغه بحيث بدا من المستحيل عليه أن يتحرر من قيود عبوديته التي صنعها بيديه وكبل بها نفسه بنفسه. الشعب المصري شعب متدين، وعندما تكون متدينا تنفي الشرط الأول لتحقيق الديمقراطية.كيف؟ التعاليم الدينية الإسلامية تفرض حكم خلافة، فالحاكم هو خليفة في نفس الوقت، تُرفع له صلوات القداسة والحماية من قبل الله والتمنيات بطول العمر من على منابر الجوامع. التعاليم الدينية التي دخلت في شرايين الشعب المصري باعتباره شعباً متديناً جعلته يفرز نظام يرأسه حاكم (مقدس)، ويستمد سلطته من الله وبالتالي فهو (مطلق)، والتشكيك به وبمطلقه هو تشكيك بذات الله نفسه. وهي الخطيئة الأعظم التي يمكن لإنسان من أن يرتكبها. وهذا هو الفرق بين ثورات أوروبا وثورات الشعوب الإسلامية، فأوروبا عرفت حربا ضروس بين حكامها السياسيين والأكليروس الذي أفرزته الديانة المسيحية، وهاتان القوتان هما قوتان منفصلتان تماما ومستقلتان، ولمدة طويلة كانت السيطرة لرجال الاكليروس بعدها انتفض الإنسان الأوربي وانتصر وتوصل لمنظومة اجتماعية سياسية قانونية تدعى (العلمانية) \"فصل الدين عن الدولة\"، أدت به هذه العلمانية إلى تطبيق الديمقراطية، وبعد تجارب عديدة توصل لأسمى الصيغ وأكثرها نجاحا في نشر الأفكار الديمقراطية بين الشعب وتمثل ذلك بشكل الديمقراطية المطبقة في مجتمعاته. بينما الشعوب الإسلامية ولأنها (إسلامية) فهي تدمج وتوحد بين الحاكم وخليفة المسلمين، فالحاكم السياسي هو خليفة بنفس الوقت، والمسلم لم يعرف الصراع بين سلطتين سياسية ودينية لأن الإسلام هو دين ودولة. وبالتالي لم يعرف (العقل المسلم) معنى (العلمانية)، لأنه لا يستطيع أن يقارن بين ما يقدمه رجال الدين الإسلامي من برنامج سياسي واجتماعي واقتصادي وثقافي وبين ما يطرحه الحاكم السياسي في الطرف المقابل، لأن الطرفين يملكان نفس البرنامج السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، لأن مصدر التشريعات والقوانين هو الشريعة الإسلامية، وكلا الطرفين يعتقدان بأن تطبيق التعاليم الإسلامية هو الطريق الأفضل ليقودوا به الشعب ويوصلوه إلى بر الأمان. إذاً بات من المستحيل فصل الدين عن الدولة في المجتمعات الإسلامية. وبكلمات أخرى يمكننا القول أنه من المستحيل بمكان أن يتم إلغاء الدين وإقصائه عن الدولة بفعاليتها السياسية والاجتماعية، وبالتالي سنصل لنتيجة حتمية هي أنه من المستحيل أن يكون البلد (متدينا) مستمدا قوانينه وتشريعاته من الدين وأن يكون (ديمقراطيا) في نفس الوقت
. لا وجود لديمقراطية في كنف تعاليم تعطي لمعتنق الدين الأفضلية في كل شيء. لا وجود لديمقراطية مع وجود العنصرية الدينية. لا يمكن لشعب أن يفهم ويعي معنى الديمقراطية وهو مؤمن أنه وحده دون الآخرين (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) وله الحق الإلهي في أن (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) ( نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) ( فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ) (وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ).
الخطوة الأولى للثورة تتطلب تحويل الجوامع إلى متاحف وتحويلها إلى مكتبات، وتحويلها إلى مدارس، وتحويلها إلى حدائق. الخطوة الأولى للثورة تستدعي ثورة على التعاليم الدينية، تستدعي إزالة التعاليم الدينية من الوجود لأنها السبب الأول في نشر الطائفية والمذهبية التي تمزق جسد الوطن وتضرب وحدته وتجعل حياة أبنائه بؤساً وجحيماً وخوفاً وتقوقعاً وانغلاقاً. الخطوة الأولى للديمقراطية والتحرر هي استئصال موانع الديمقراطية والتحرر، متمثلة هذه الموانع والعوائق في (الأحزاب الدينية) التي تعبث وتخرب عقول الشباب وتجرهم إلى الموت. استئصال الأحزاب الدينية وكشف زيفها وخداعها ونفاقها هو العامل الأهم في تجنيب البلد حرباً أهلية، تفتّته وتجره إلى الهاوية. استئصال الأحزاب الدينية هو الخطوة الأولى في نشر السلام والأمن والطمأنينة، ومن شأنه أن يمنع من توالد ونشوء الحركات الإرهابية الأصولية التي تفجر الكنائس والسفارات وأماكن السياحة والاصطياف وتقتل الأبرياء وتعيث خراباً ودماراً في الوطن. الخطوة الأولى للثورة تستدعي إعادة النظر في مناهج التعليم، فإلغاء مادة التربية الدينية هو أهم الثورات وأعظمها. لأنه من خلال التربية الدينية يتعلم الطفل أن هناك أناس يشكلون (طرفاً آخر)، وأنه (مختلف عنهم). وبالتالي يتعلم معنى التمييز بين إنسان وإنسان على أساس دينه، وهذا ما يرسخ العنصرية ويقتل الديمقراطية ويطمس معانيها عند الطفل، لأنه أصبح تقييم الإنسان بناءً على الدين والمعتقد. إلغاء مادة التربية الدينية هو خطوة أولى للتغيير، لأنه من خلالها يتعلم الطفل أن الذي (يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) من خلال التربية الدينية يتغذى الطفل بأن الطرف الآخر هو ولي الشيطان ويجب محاربته حتى لا تكون هناك فتنة: (فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ) (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَة).
الشعب المصري شعبٌ غيرَ مستعدٍ للديمقراطية، لأن الديمقراطية تفرض التسامح وقبول الآخر. الديمقراطية تفرض وعي الناس في الحق بأن يكونوا مختلفين. الديمقراطية هي حرية في أن يقول الإنسان ما يشاء والمتدين ليس حرا في أن يقول ما يشاء. الديمقراطية هي حرية المعتقد والدين والانتماء. والمتدين لا يستطيع تغيير دينه واعتناق أي دين يشاء.(وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ) (قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ)
لأسأل الآن بضعة أسئلة لنرى كم أن المثقف الناطق بالعربية هو وإعلامه بعيدين كل البعد عن توصيف حقيقي للواقع المصري وقد اغرقوا الشباب المصري بوابل من الأحلام: • كم مصري يعتقد بأن الأقباط (كفّار)؟! • كم مصري يعتقد حقيقةً بأنه (لا يوجد كافر بريء)؟! • كم مصري يعتقد بأن الأقباط يتلقون مساعدات من الغرب الكافر من أجل بقائهم وتمسكهم بدينهم المسيحي؟! • كم مصري يعتقد بأن بعض الناس وعلى الرغم من أنهم قمة في الإنسانية والعطاء والوطنية لن يدخلوا الجنة لمجرد أنهم ليسوا مسلمين؟! • كم مصري يعتقد بأن الغرب (يحاربه ويريد النيل منه)؟! • كم مصري يعتقد بأن \"مصر أم الدنيا\" بينما مصر أشد بلدان العالم فقرا؟! • كم مصري يعتقد بأن \"مصر أم الدنيا\" ومصر تنفرد وحدها من بين جميع بلدان العالم الأكثر فقرا بخاصية أن (ملايين من البشر تعيش بين القبور)؟! • كم مصري يعتقد بأن \"مصر أم الدنيا\" بينما مصر أكثر بلدان العالم جفافا على وجه الأرض؟! • كم مصري يعتقد بأن \"مصر أم الدنيا\" وشعبها أكثر شعوبا الأرض قاطبةً يدخن الشيشة والأركيلة؟! • كم مصري يعتقد بأن قائل هذه الكلمات \" الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ\" هو شيء اسمه الله مطلق العظمة ومطلق القوة يحتاج لمجموعة من البشر أن يدافعوا عنه ويقاتلوا في سبيله؟! • كم مصري يعتقد بأن هذه الكلمات \" فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ \" هي كلمات من عند المقدس الأعظم؟! • كم مصري يعتقد بان مدارس الشريعة هي مفارخ للإرهاب؟! • كم مصري يعتقد بأن خطبة يوم الجمعة هي خطبة يلقيها خطيب قمة في الجهل والتخلف؟! • لا بل كم مصري يتأثر بهذه الخطبة لتدخل كل كلمة سمعها من ذلك الخطيب أو الإمام في منظومته الفكرية ويقتنع بها على أنها حقيقة؟!ا • كم مصري يعتقد أن جريمة الشرف هي وسيلة لغسل العار؟! • كم مصري يعتقد بوجوب حجاب المرأة وتغليفها؟! • وكم مصري يدرك الأذى النفسي الذي يولده الحجاب الذي يفرضه على الأنثى طوال عمرها ليسلبها الشعور الرائع من أن يلامس الهواء شعرها، ويسرق منها استمتاعها بأشعة الشمس من أن تدخل بين ثنايا جدائل فتاة في عمر الورود؟! • كم مصري يعتقد بأن الطفل عندما يولد سيرسل الله رزقه معه؟! • كم مصري يعي خطورة الانفجار السكاني الذي تعانيه بلده؟! وأي حلول اقتصادية يمكن أن تنفع في ظل هذا العدد الهائل من الولادات الذي يُفشل ويُحبط أي خطة اقتصادية لتحسين أوضاع الشعب.
شعبٌ يثور بعد خطبة يوم الجمعة، هو شعبٌ يحتاج لأن يعيد برمجته العقلية من جديد. شعب يثور بعد خطبة يوم الجمعة هو شعب يحتاج لأن يقطع طريق طويلة حتى يتوصل لمعرفة طريق الديمقراطية والحرية. الثورة تستدعي ثورة على العقل قبل أي ثورة أخرى.