التاريخ يعيد نفسه
فاروق عطية
الخميس ٢ فبراير ٢٠١٧
فاروق عطية
في بداية خمسينيات القرن العشرين كنت طالبا بالمرحلة الثانوية بمدرسة طهطا الثانوية الأميرية (رفاعة الطهطاوي الآن). كان يزاملني صديق من قرية الجبيرات (إحدي القري التابعة لمركز طهطا) يقيم إبان الدراسة مع مجموعة من الطلبة القادمين من القري المجاورة لمدينتنا.
كنا نلتقي كثيرا لمراجعة الدروس سويا. وفي الإجازة الصيفية دعاني لزيارته بقريته حتي أنعم بفترة استجمام ومعايشة لحياة القرويين الهادئة بعيدا عن صخب المديبة. كانت وسيلة الانتقال من المدينة للقري المجاورة تتم عن طريق الدواب إذا كانت القرية قريبة، أو عن طريق أتوبيس الصعيد (الحلزونة) إذا كانت القرية بعيدة. وفي اليوم المحدد للزيارة أتي صديقي "علي قبيصي" إلي منزلي واصطحبني لمحطة الأتوبيس حيث ارتقينا الحلزونة الذاهبة إلي نزلة القاضي.
سارت الحلزونة غربا في طُرُق لولبية ترابية لمدة ساعتين مررنا خلالها بعشرات القري حتي وصلنا في النهاية لأخر الخط، وصاح الكمساري "نزلة القاضي". وقرية الجبيرات موطن صديقي تبعد كيلومترين شمال نزلة القاضي يقطعها الذاهبون بعد مغادرة الحلزونة سيرا علي الأقدام علي طريق صحراوي من الرمال غير ممهد مرورا بمقابر القريتين. في طريقنا شاهدت سلسلة جبال قريبة تبعد عن القرية بحوالي 3 كم. لاحظت أن بالجبل العديد من المغارات بعضها قريب من القمة وبعضها قريب من السفح. سألت صديقي عن إمكانية الذهاب إلي الجبل والصعود لإحدي المغارات القريبة، فأجابني أن ذلك يسير، وكثيرا ما ذهب مع بعض الصحاب وقضوا وقتا ممتعا تحت سفح الجبل، أوتسلُّقا لإحدي مغاراته، ووعدني برحلة للجبل في اليوم التالي.
استقبلتني أسرة صديقي استقبالا رائعا، وفي المساء رشوا الفَسَحَة الممتدة وسط أكواخ القرية بالماء، وجلسنا علي المساطب خارج الدور حيث تحلّق رجال القرية وشبابها في سهرة مليئة بالنكت والقفشات والألعاب المسلّية حتي أذن وقت النوم. وفي الصباح الباكر تجمع بعض الشباب مع عدد من الجِمال، معهم الطعام والماء وبعض الحطب لزوم عمل الشاي وخيمة لاستخدامها وقت الظهيرة اتقاء لحرارة الشمس الحارقة، وتوجهنا نحو الجبل. سرنا ممتطين الجِمال القادرة علي عبور رمال الصحراء ووصلنا بعد نصف ساعة، نصبنا خيمتنا وأوقدنا بعض الحطب وتناولنا إفطارنا حتي تم غليان الشاي واحتسيناه بتلذذ.
تسلقنا لأقرب مغارة وكانت مربعة الأبعاد كأنها غرفة معدة للمعيشة، أرضيتها ملساء وجدرانها لامعة مصقولة. استلقينا علي أرض المغارة الباردة مقارنة بحرارة الجو خارجها. وبعد أن استرحنا قليلا طلبت منهم أن نصعد لمغارة أعلي. وكانت المفاجأة أن المغارة الأعلى عبارة عن مقبرة، بها جثة ملفوفة في كتان أبيض. فزع الأصدقاء وهبطوا مسرعين، وهم يتصايحون: مساخيط مساخيط ..!!، لاحظت وجود لفافة من ورق البردي بين طيات الكفن انتزعتها بلطف وأخفيتها في جيب سترتي الداخلي وهبطت خلفهم.
قضيت عدة أيام سعيدة مع الأتراب نقضي معظم وقت النهار في صيد السمك من الغيطان التي غمرها الفيضان محولا إياها لبحيرة كبري، وفي المساء نتجمع خارج المنازل، البعض يلعب السيجة والبعض يلعب التحطيب والآخرين يتسامرون. تحدثت مع كبار السن من فلاحي القرية وسألتهم عن مغارات الجبل فحكوا لي قصصا كثيرة عن المساخيط المدفونين في المغارات، وأنهم يخشون الاقتراب منها خوفا من اللعنة التي تصيب من يعبث بها. وبعد قضاء فترة الضيافة عدت إلي منزلي. حاولت أن أعرف المكتوب في هذه البردية الغريبة الكتابة، حاولت نقش بعضا من سطورها وذهبت لمدرّس التاريخ وسألته عن هذا الخط فقال لي أنة يعرف بالكتابة الديموطيقية وهي أحد الخطوط المصرية القديمة التي كانت تستخدم في تدوين النصوص الدينية، ونصوص تدريب الكِتِبِة، والرسائل والوثائق القانونية والتجارية لدى المصريين القدماء، وهي خط مبسط من الخط الهيراطيقي. و قد اشتق هذا الاسم من الكلمة اليونانية "ديموس" والنسبة منها "ديموتيكوس" وتعني الشعبي، ولايعنى هذا الربط بين هذا الخط وبين الطبقات الشعبية في مصر وانما هو خط المعاملات اليومية، ويمثل المرحلة الخطية الثالثة بعد الهيروغليفى والهيراطيقى. وأخبرني أن قراءتة يحتاج لمتخصص في المصريات، وسألني عن مصدر هذه الأسطر فقلت له أنني نقشتها من أحد كتب التاريخ في المكتبة العامة. أخفيت هذه البردية في أحد أدراج مكتبي وانشغلت في دراستي حتي التخرج، ومشاغل العمل المستمرة، ونسيت أمرها سنينا عديدة حتي أُحِلتُ إلي التقاعُد. بحثت عنها فوجدتها وطبعت منها عدة صور وأخفيتها.
أعطيت كل من أصدقائي الأربع المصريين الدارسين للمصريات نسخة، وطلبت منهم محاولة ترجمتها، كما أنني عكفت علي قراءة الكتب المتخصصة في اللغات المصرية القديمة الموجودة بمكتبة جامعة القاهرة ولكنني لم أوفق. حاول كل من الأصدقاء المتخصصين وأرسل كل منهم لي ترجمة، حاولت التوفيق بين الترجمات فوصلت إلي نتيجة مشتركة وهي أن البردية تحمل رسالة من المتوفي يذكر فيها بعض من ذكرياته. وحين قدمت إلي كندا علمت أن بجامعة تورونتو قسم لدراسة علم المصريات (إجبتولوجي) وأن بها أستاذ من أصل مصري متخصص في هذا العلم. أرسلت له رسالة وشرحت له ملخص عن موضوع البردية، وبعد فترة وجيزة وصلتني رسالة منه تفيد استعداده لمحاولة ترجمتها. ذهبت إليه ومعي نسخة من البردية إضافة للأربع ترجمات التي حاول أصدقائي القيام بها. طمأنني أنه بإذن الله قادر علي الوصول للترجمة الصحيحة مستعينا بترجمات الأصدقاء وقال أن ذلك يتطلب الوقت دون استعجال.
بعد مرور أكثر من خمس أعوام وكنت قد نسيت أو تناسيت موضوع البردية جاءتني مكالمة من أستاذ المصريات يخبرني بأنه تم التوصل للترجمة الصحيحة لليردية. ذهبت إليه وكلي لهفة لمعرفة ماذا ترك لنا المتوفي في هذه البردية. رحت أقرأ ما جاء بالبردية وكلما قرأت سطرا ازددت عجبا، كأنه كان يعيش بيننا ويذكر لنا ما حدث قديما كأنه ما يحدث الآن في مصرنا، وإليكم الترجمة لتحكموا بأنفسكم، أن التاريخ يعيد نفسه ولكن لمن يعي ويفهم ويتذكر..! والترجمة كالتالي:
أنا "كا- مو- خنت" الفقير للإله الواحد آتون ملك الملوك ورب الأرباب، أحسست بدنو الأجل ونهاية الحياة الفانية وقرب انتقالي لحياة الخلود مع آتون الموجود يذاته وروحه الخلاقة"أزوريس" وابنه الوحيد الذي يزن الحسنات والسيئات يوم الحساب "حورس" الإله الواحد الأحد، قررت أن أبرئ ذمتي للتاريخ وأدون ما عشته وما حدث في بلدي وموطني كيمي(مصر) وما قاساه الكمينيو(أهل بلدي المصريون) خاصة في تامحو (منطقة الدلتا)، وحمدا للإله آتون أن تاشمعو (صعيد مصر) كانت بعيدة عن هذه القلاقل وغدا يبعث لنا حورس المخلًّص من يهب من فراعين تاشمعو (طيبة) لتحرير مصر كلها لتعود قوية شامخة كما كانت.
إبان حكم الملوك العظام من أمنحتب الأول وسنوسرت الأول وأمنمحات الثاني .. حتي آخر ملوك هذه الأسرة: سوبك نفرو(الأسرة الثانية عشر) كانت مصر قوية مهابة تنعم بالاستقرار والعظمة. اختلف الأمر في الأسرة التالية (الأسرة الثالثة عشرة)، وعلى امتداد قرن ونصف من الزمان تتابع على الحكم حوالي ستين فرعونا. لم يبق معظمهم على العرش إلا بضع سنين، بل أحيانا بضعة أشهر. ولم يتمكن سوى عدد قليل منهم من تكوين سلالة، لكنها كانت سلالة عابرة. وكان عدد كبير ضمن هؤلاء الفراعنة من العسكريين والعامة والأجانب (الآسيويين)، وكان شرق كيمي، وكيمي السفلى تحت السيطرة المباشرة لحكام أواريس ومعظمهم من الأجانب القادمون من الصحراء الآسيوية (العربية) كتجار، وهم الذين سهّلو لرعاة الشمال "حقاو- خاسوت" غزو كيمي من الشرق.
وفي ظل هذه الفترة المظلمة من التاريخ ابتليت كيمي بالحكم الأجنبي، حيث حكمها الـ"حقاو- خاسوت"(الهكسوس) حوالي 100 عام. وهم قبائل بدوية من أصول آسيوية دخلت مصر بأعداد ضخمة لم يقدر المصريون على مقاومتها في بادئ الأمر. وكعادة القبائل الصحراوية الهمجية قاموا بحرق المدن وتدمير المعابد وسبي النساء والأطفال وذبح من يقاومهم من الرجال. وبعد حرب شرسة مع الكمنيو اتخذوا عاصمة لهم في شرق تامحو (شرق الدلتا) أطلقوا عليها اسم "زوان" والتي كانت تعرف بـ "أورايس" ( صا الحجر)، وأجبروا الحكومة المركزية على التراجع إلى طيبة. وعينوا حُكاما تابعين لهم على أقاليم الشمال ليحكموا تحت سيطرتهم ويدفعون لهم الجزية. تركزت مملكتهم بشكل أساسي في تامحو (الدلتا) وكيمي الوسطي، أما تاشمعو (صعيد مصر) (طيبة وبلاد النوبة)، فكانتا تخضعان لحكم ملك طيبة.
والراجح أن الـ "حقاو خاسوت" أصحاب أصول آسيوية متعددة، واضح من أسماء ملوكهم ىأنها سامية عامورية مثل صقير حار وخيان وخمودي وأبو فيس، ومن أسماء آلهتهم ومعبوداتهم مثل بعل وعانة وعشتروت. قلد الـ "حقاو- خاسوت" (الهكسوس) نماذج الحكم والحكومة الكيمية ونصّبوا أنفسهم فراعنة. وحتي يتقربوأ من الكمينيو (المصريين) دمجوا معبودهم "بعر" (البعل) بأحد الألة المعبودة شرق تامحو (شرق الدلتا) وهو الإله ست إله الصحراء والعواصف والأجانب، وقدسوه تحت اسم سوتخ، ويرسم كإنسان برأس حيوان غريب يشبه رأس الكلب بأذان مفلطحة قائمة وذيل مستقيم ممتد إلى أعلى، وحرّموا عبادة الإله الواحد المثلث الأقانيم "آتوم" بحجة أنهم يعبدون إله واحد أحد هو البعل.
قررت أنا العبد الفقير لآتوم "كا- مو- خنت" بعد أن عشت معظم حياتي مهان ومحتقر تحت حكم الحكام الأجانب "حقاو- خاسوت" أن أتوجه لفرعون طيبة الكمينو الأصيل سقنن رع، لأشرح له وأدله علي كل ما يفيده ويساعده علي تخليص البلاد من ربقة الاستعمار، ولكني أحسست بدنو الأجل، فكتبت هذه الكلمات ربما تفيد أبناء بلدي في المستقبل، وأنصحهم بالوحدة والقوة والصمود وعدم التواكل والضعف، والتمسك بالتعبد الحقيقي لا مظاهره، ولا يركنوا للعملاء والمأجورين حتي لا يقعوا تحت حكم أصحاب البعل. (توقيع)